في لحظة تتشابك فيها الحسابات، وتتباين فيها الأجندات، يبدو المشهد اليمني ماضياً إلى مزيد من التعقيد لا الانفراج، فالسعودية قامت باستدعاء الأحزاب والمكونات السياسية اليمنية إلى الرياض للعمل على أستدامة التهدئة وضرورة الوصول لتسوية مع الحوثي كما قال سفيرها في اليمن في إجتماعه مع هذه المكونات، هذا التحرك يبدو غريباً حين يقارن بتحركات واشنطن، التي تكثّف ضرباتها الجوية على مواقع الحوثيين تحت يافطة “تأمين الملاحة الدولية”. هذا التناقض بين الدعوات السعودية للسلام والتهدئة من جهة، والضغوط العسكرية الأمريكية على الحوثيين من جهة أخرى، لا يُقرأ كمجرد اختلاف في الأدوات، بل يكشف عن تباين أعمق في الروئ، وارتباك واسع في أولويات الحلفاء، مما يعكس تحولاً في إدارة الملف اليمني بين السعودية وأمريكا.
ما الذي يدفع السعودية نحو التهدئة والتسوية في هذا الوقت المناسب للإنقضاص على الحوثي؟ سؤال مركزي ومهم ولا نستطيع الأجابة عنه إلا من خلال نظرة السعودية نحو اليمن اليوم، فاستدامة الوضع اليمني على ما هو عليه قد لا تكون مجرد نتيجة اضطرارية، بل قد تكون مصلحة -ضمنية - للرياض في هذه المرحلة. فالحال الراهن، بكل ما فيه من تفكك وتوزع نفوذ، يمنح المملكة قدرة على التأثير المباشر في المشهد اليمني، عبر أدوات متعددة وبالأمر المباشر غالبآ، بالأضافة إلى أن الرياض تحتاج وقت حتى ترتب الأمور في بعض مناطق الشرق اليمني كما بداء جليآ مؤخرآ، أما وفي حال تمت الإستفادة من تطورات اللحظة الراهنة بإستعادة الدولة، فإن معادلة العلاقة ستتغير بالضرورة، ويتقلص نفوذ الأطراف الخارجية، وسيصبح اليمن طرفاً مستقلاً في اتخاذ قراراته. وإن كانت هذه الحسابات قد تفهم على أنها مصلحة سعودية في هذه اللحظة، إلا أن هذا الرهان يبقى قصير النظر، لأن استقرار اليمن على أسس وطنية سليمة سيسهم في استقرار المنطقة ككل، ويحول اليمن من مصدر توتر إلى ركيزة أمن وسلام يضمن مصلحة الجميع. ولكي لا يُفهم هذا الكلام بأنه يتنافى مع الدعوات نحو السلام فهل لدى السعودية اليقين أن الحوثي لدية نية في السلام والجلوس للتفاوض مع أخوانه اليمنيين أم أنه يبحث عن سلام مع السعودية فقط ليتقاسم معها النفوذ عبر النتائج التي أفرزتها الحرب ونعيش وقائعها منذ سنوات بلد مفكك محكوم من الخارج وقوى داخلية تابعة أما مهاجرة مرفهة أو تحكم بالحديد والنار وتحتاج لوقت حتى تستقر لها الأمور كالحوثي نفسه. على هذه الخلفية يمكننا القول أن السعودية أعادت تعريف مقاربتها للصراع، فلم تعد ترى في الحوثي خصماً وجودياً يجب اجتثاثه، بل خطراً يمكن احتواؤه وتحييده، ما دام يشكل تهديداً قابلاً للإدارة. وقد انتقلت من شعار عاصفة الحزم بـ“استعادة الدولة” إلى هدف “خفض التهديد”، ومن الحسم العسكري إلى تدوير الزوايا، بما ينسجم مع رؤية 2030، التي تعيد ترتيب أولويات الداخل وأن كان حتى على حساب الأمن القومي. لذلك، لم يعد اليمن ملفاً طارئاً، بل ساحة نزاع بارد، تُدار بتكتيكات الاحتواء، لا باستراتيجيات المواجهة.
هذا التحول في الرؤية السعودية جعل من صنعاء، إن لم تكن هدفاً للإستعادة، فليست أيضاً ساحة ينبغي خسارتها، بل يمكن التفاهم معها بصيغ هادئة، حتى وأن بقي الحوثي ممسكآ بمفاتيحها. ومن هنا، ظهرت محاولات توسيع هوامش المناورة خارج العباءة الأمريكية، بفتح قنوات خلفية في مسقط، وتكثيف الاتصالات غير المعلنة مع الجماعة، وتخفيض الاعتماد على الوساطة الغربية، مقابل إعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية بما يضمن للرياض زمام المبادرة.
في هذا المشهد المزدحم، تبرز الإمارات بمسار أكثر استقلالاً، لا يلتقي تماماً مع الرياض ولا يتقاطع بوضوح مع واشنطن، لكنه يحتفظ لنفسه بزاوية مناورة خاصة، تُبقي على الحوثي كرقم حاكم في المعادلة الشمالية، لضمان استمرار أوراقها جنوباً، وتتعامل مع “الشرعية” كواجهة لتبرير النفوذ وتغطية الوكلاء المحليين. لا يعنيها شكل الدولة أو طبيعة الحل، بقدر ما يهمها ثبات المكاسب، واستدامة السيطرة تحت عناوين ولو كانت توافقية لكنها زائفة.
وسط هذا التزاحم، يغيب الفاعل اليمني الحقيقي، وتُستدعى الأحزاب والمكونات اليمنية إلى الرياض لا لتقرير مصيرها، بل لتزكية ترتيبات لم تشارك في صناعتها حتى وأن كانت تغييرات في هيكل الشرعية نفسه كما حصل في مشاورات إبريل 2022. الشرعية غائبة عن التأثير، والانتقالي وقد استنفذ شعاراته، بات يؤدي أدواراً مرسومة في خدمة أجندات لم تعد تخفي نفسها على أحد.
ما يتبلور اليوم لا يشير إلى ميلاد تسوية، بل إلى تثبيت معادلة هشّة تُبقي اليمن تحت إدارة الفوضى، وتحول دون استعادة الدولة، وتمنح كل طرف ما يكفي ليُبقي على نفوذه، دون أن يمتلك أحد القدرة على الحسم. تذوب خارطة الجمهورية في خطوط تماس مؤقتة، وتُعاد صياغة اليمن كأرض مقسّمة بين المطامع الخارجية، لا كهوية موحدة لأبنائها. الحل لا يبدو وشيكاً، بل يزداد ابتعاداً كلما اقتربت الأطراف من تسويات شكلية تُدار من الخارج، وبأدوات لا تنتمي إلى الأرض.
تتعامل الولايات المتحدة مع الحوثيين من منظور إقليمي صرف، كوكلاء لإيران، لا كقوة يمنية في معادلة داخلية. في هذا الإطار، لا تسعى واشنطن إلى إنهاء وجودهم، بل إلى ضبط حركتهم، وتقويم سلوكهم وإبعاد خطرهم عن خطوط التجارة الدولية في البحر الأحمر كما صرح وزير الدفاع الأمريكي، واستخدامهم لاحقآ كورقة ضغط في إطار إدارة التوازنات والمصالح في المنطقة، لهذا وحتى اللحظة تبدو الولايات المتحده غير معنية بحل القضية اليمنية.
رغم قتامة المشهد، فإن الأمل لا ينطفئ. ما دام في اليمن قوى وطنية مستقلة عن الاستقطابات، قادرة على صياغة مشروع جامع لا يستنسخ التبعية ولا ينزلق إلى مربعات التقسيم، فثمة فرصة لميلاد جديد. وإذا كانت بعض دول الإقليم قد باتت تتوجس من استعادة الدولة خشية أن تُفضي إلى تقليص نفوذها، فإن مصلحة الولايات المتحدة – بعكس ذلك – تكمن في وجود يمن موحد، مستقر، يحكم سيادته على كامل ترابه، ويضبط أمن ممراته، ويحوّل الجغرافيا اليمنية من ثقب أسود يشكل خطراً على محيطه والمصالح الدولية إلى منصة منظمة لتأمين هذه المصالح، وعلى رأسها خطوط التجارة الدولية في البحرين العربي والأحمر. إن مدّ اليد لهؤلاء اليمنيين، ومساعدتهم نحو إستعادة الدولة، لا يحقق مصلحة وطنية خالصة فحسب، بل يصنع أداة نافعة للمنطقة والعالم على حد سواء، ويعيد التوازن إلى رقعة ظلت لعقود خارج السيطرة. وأن تقدم هؤلاء إلى الواجهة، سيتغير شكل الطاولة، وسيتحرك الإقليم والعالم للتعامل مع مركز ثقل وطني حقيقي. أما إن طال غيابهم، فستبقى البلاد تحت رحمة هندسة خارجية تتقن إدارة التناقضات، وتُحسن تدوير الفوضى، وسيظل التفكيك قائمآ حتى تأتي اللحظة المناسبة للتقسيم وحينها، سيكون اليمن الذي نعرف من الماضي، لذلك فالكره في مرمى المخلصين من أبناء اليمن لا سواهم.