الخرطوم- لم يختلف صباح العاصمة السودانية كثيرا عن غيره من أيام بدايات الأسبوع، فالزحام ذاته الذي يلفّ طرقاتها كان سيد الموقف وإن كان نصب معتصمين خيما على مقربة من القصر الرئاسي أضفى على الشوارع المحيطة اختناقا مضاعفا، عكس بشكل أو آخر التوتر الشديد الذي يحيط بالوضع السياسي المعقد في هذا البلد.
وعصف انقسام قوي بتحالف الحرية والتغيير -الائتلاف الحاكم- الذي تحوّل إلى تيارين يناصر أحدهما العسكريين في السلطة في حين يناوئها الثاني الذي يستقوي كما يقول قادته بالشارع الذي كان القاسم الأكبر في الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير قبل نحو عامين.
ويتمحور خلاف شقي الحرية والتغيير حول هيكلة الائتلاف مع اعتقاد بعض الجماعات الموقعة على اتفاق السلام -حركات دارفور المسلحة ومساري الوسط والشمال- بهيمنة قوى محددة على مراكز صناعة القرار بما يستوجب إعادة الهيكلة وتوسيع المشاركة في أجهزة الحكم الانتقالي لتشمل القوى الـ79 التي مهرت وثيقة الحرية والتغيير الأولى من دون إغفال أجسام أخرى لم توقع لكنها أسهمت في النضال والثورة على النظام السابق.
وفي المقابل، يتحدث قادة المجلس المركزي للحرية والتغيير عن استعدادهم لإجراء مراجعات على المسائل التنظيمية في التحالف التي توّجت أخيرا بإعادة الهيكلة وتوقيع ميثاق سياسي في سبتمبر/أيلول الماضي بعد عودة حزب الأمة القومي إلى المنظومة.
لكن ذلك لم يرض مجموعة الرفض التي آثرت الابتعاد وتوقيع ميثاق آخر السبت الماضي أساسه المطالبة بحل الحكومة القائمة وتوسيع قاعدة المشاركة في الأجهزة كافة، وهو ما تنظر إليه الجماعة الثانية بعين الريبة باعتباره يؤدي إلى الإخلال بميزان القوى حال تكوين المجلس التشريعي باصطفاف قوى مؤيدة للعسكريين وربما مناصرة للنظام السابق.
ووسط هذه الرؤى المتناطحة يصف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ما تمر به الساحة السودانية بأنه أخطر أزمة سياسية تهدد الفترة الانتقالية بل تنذر بشر مستطير.
وقال حمدوك في خطاب متلفز ليل الجمعة إن المحاولة الانقلابية الأخيرة هي الباب الذي دخلت منه الفتنة، فخرجت كل الخلافات والاتهامات المُخبأة من كل الأطراف من مكمنها، ويتابع "هكذا نوشك أن نضع مصير بلادنا وشعبنا وثورتنا في مهب الريح"، قبل أن يتحدث عن خريطة طريق لحل الأزمة المعقدة.
لكن تصريحات حمدوك ومحاولاته المستميتة للحيلولة دون انهيار الحكم تحت وطأة الخلافات المستفحلة لم تجد آذانا صاغية، وهو الذي طرح قبلها مبادرة "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال-الطريق إلى الأمام" من دون أن يصل إلى مبتغاه منها.
فبعد ساعات من نهاية موكب أمّه آلاف من مؤيدي الجناح المنشق عن الائتلاف الحاكم والرافع لشعارات التوافق الوطني، بدت الساحة السودانية منقسمة بقوة حيال هذه التطورات في ظل تأييد قادة المجلس المركزي للتحالف الحاكم لدعوة ابتدرها الحزب الشيوعي -المعارض للسلطة- للخروج في مواكب الخميس المقبل.
ومع اعتصام مفتوح للتيار المنشق المسنود من العسكريين في السلطة على مقربة من القصر الرئاسي بدا أن القوى المتشاكسة ستراهن على الحشد الشعبي لتكون الغلبة في معركة "شارع مقابل شارع" لمن يستطيع تطويع أكبر عدد من السودانيين.
ولا يتردد تحالف الحرية والتغيير المتهم باختطاف الحكومة في اتهام قيادات عسكرية ومدنية بتأجيج الأوضاع في الساحة السياسية، إذ قالت اللجنة القيادية المُفوّضة بعد اجتماع عقدته يوم الجمعة لتقييم الوضع السياسي إن "الأزمة الحالية تقف خلفها قيادات عسكرية ومدنية محدودة ترمي إلى إجهاض كل إنجازات ثورة ديسمبر المجيدة".
ولفتت إلى أن الأزمة تجيء على خلفية فشل سابقاتها من محاولاتٍ لتجويع الشعب وتركيعه وإحداث انفلات أمني وإغلاق الموانئ والطرق، في إشارة إلى إغلاق جماعة الناظر محمد أحمد ترك لشرق البلاد للضغط في اتجاه حل الحكومة وهي المطالب ذاتها التي ينادي بها العسكريون ومؤيدوهم.
وأمام الدعوات والضغوط الكثيفة المرفوعة لتغيير الحكومة يستعصم التحالف بمقاومتها قائلا في بيانه "نُعلن موقفنا واضحًا في أن حلّ الحكومة هو قرار ملكٌ للحرية والتغيير وبالتشاور مع رئيس الوزراء وقوى الثورة، ولن يأتي نتيجة لإملاءات فوقية ومؤامرات من الفلول".
بل رأت اللجنة أن محاولة خلق أزمة دستورية بحجة وجود أكثر من جسم للحرية والتغيير لا تقف على ساقين، وأن المخطط ذاته هُزم بانضواء المجلس المركزي والجبهة الثورية وحزب الأمة القومي تحت راية الجسم الموحد للحرية والتغيير.
وقالت إنها ترحب بكل من كان جزءا من الحرية والتغيير وخرج لظرف من الظروف، متعهدة بالانفتاح على كل قوى الثورة والتغيير لهزيمة "الانقلاب الزاحف"، وفق وصفها.
ومع ذلك يرفض نور الدائم طه مسؤول الإعلام بحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي أي حلول باستثناء حل الحكومة، وفقا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وتكوين حكومة كفاءات مستقلة ومنسجمة ومتجانسة لإكمال المرحلة الانتقالية وإصلاح الأجهزة الأمنية وتكوين المفوضيات وعلى رأسها مفوضية الانتخابات ومفوضية صناعة الدستور.
ويؤكد طه للجزيرة نت أن هذه المهام لا تستطيع القيام بها إلا حكومة مستقلة ذات كفاءة، كما يشير إلى أن من بين مطالبهم الموقع عليها في ميثاق التوافق الوطني وحدة قوى الحرية والتغيير عبر انعقاد المؤتمر التأسيسي للتحالف فضلا عن إنهاء ظاهرة الإقصاء وسط القوى السياسية التي قال إنها تؤدي إلى تمزيق البلاد.
ويشير كذلك إلى ضرورة العمل على وحدة السودان باستعادة شرقه الذي قال إنه الآن خارج السيطرة وبعيد عن إدارة الفترة الانتقالية، وحل ذلك يكمن -وفق مسؤول الإعلام- في الاتفاق على حكومة ذات كفاءة عالية.
ويقول "نحن ندعو إلى حكومة ذات قاعدة عريضة يشارك فيها الجميع باستثناء المؤتمر الوطني"، قبل أن يضيف "نحن نطالب حمدوك بأن يتخذ قرارا لأن الحكومة الحالية غير قانونية وتخالف الوثيقة الدستورية التي تتحدث عن حكومة كفاءات مستقلة في حين إن القائمة الآن عبارة عن محاصصة بين أحزاب أدّت إلى تشاكس الأوضاع وتأزيمها".
ويبدي المتحدث ثقته بأن لا مخرج من الوضع الحالي سوى بالتجاوب مع هذه الدعوات خاصة في ظل الإغلاق الذي يواجه البلاد في الشرق مقرونا مع الاعتصام في الخرطوم حيث يرفع الجميع المطالب ذاتها بما لا يترك للحكومة مجالا للتعامل بغير الانصياع لها.
وتؤثر التجاذبات الحالية على الفترة الانتقالية الهشة أصلا، وتضع البلاد في مواجهة اختبار يدفع باتجاه تغيير المشهد السياسي برمته، وفقا لأستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين مصعب محمد علي.
ويشير محمد علي في حديثه للجزيرة نت إلى أن موكب السبت كرّس الانقسام بحشده العديد من المكونات الاجتماعية السودانية التي يمكن أن يكون لها تأثير بالضغط على الطرف الآخر لتقديم تنازلات يمكن أن يستفيد منها العسكر في تمديد الإمساك برئاسة الحكم.
ويذهب المتحدث إلى أن هذا التطور يمكن أن يؤثر على انتقال الرئاسة إلى المدنيين في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل عند تصاعد الانقسامات بين الطرفين بعد حشد 21 اكتوبر/تشرين الأول الجاري، وذلك يجعل القوى العسكرية في السودان أمام وضع قد تعلن بموجبه حالة طوارئ عامة وإجراءات جديدة تلغى بموجبها مؤسسات الحكم الانتقالي القائمة.
ويتوقع أستاذ العلوم السياسية تدارك هذا الانقسام بالحوار وصولا إلى اتفاق يحول دون سيطرة فئة وتقديم تنازلات من الطرفين، وهو السيناريو الأرجح -كما يقول- مضافا إليه تكوين حكومة مناصفة والمشاركة في كل مستويات السلطة، كما لا يستبعد فرضية استمرار حالة الانقسام وحل الحكومة وتكوين أخرى برئاسة عبد الله حمدوك.