span class="userContent">
ذكرى الواحدي-المهجرون قسريا من أبناء دماج وغيرهم داخل الوطن غالبا يشكلون ضحايا غير مرئيين ومنسيين للحرب المتوحشة التي شنتها مليشيات الحوثي وظلوا بعيدين عن أضواء وسائل الإعلام والمنظمات واعين الدولة لتطحنهم آلات الدمار والقوة.
دماج جرح لا يزال ينزف دماً، اكثر من 18 الفاً هجروا من مساكنهم وديارهم وأرض ألفوها وألفتهم تحت وطأة هجوم ميلشيات الحوثي والتواطئي الرئاسي والدولي ما يجرى بحق أهالي دماج جرائم ضد الإنسانية والعالم لا يزال يتعامل بصمت مع أكبر جريمة تطهير، وتهجير قسري وإبادة جماعية، وقتل جماعي منظم خارج إطار القانون والإنسانية.
مئات من النساء والأطفال والرجال الذين نزحوا يحدوهم الأمل في أن يجدوا ملاذاً آمناً، ليجدوا أنفسهم مرميين في الفراغ وعرضه للتشرد والضياع والوعود الرئاسية الكاذبة.
غادروا دماج ولم يفارقوها، فهي معهم بين حنايا صدورهم ينبضون بها، ويعيشون على أمل العودة. أطفال أطفأت نيران الحوثي بريق أعينهم، وغابت بين أصوات الرصاص صيحاتهم، عدّ النجوم المترامية في سماء دماج البعيدة أمسى من ذكرياتهم الممزوجة بالليالي القتل والدمار.
تراب دماج
تطالعك مئات الوجوه واحزمة البؤس يتكدس فيها عشرات آلاف من الاطفال، والنساء فتستقبلك في احداها تقاسيم الحزن بوجوههم، ليرددوا على ايقاع الوجع والتهجير لحن يقول لابد من دماج ولو طال التهجير.
فأول شيء رأيناه في مسجد بشائر الخير بمنطقه جدر هي بقايا اثاث للأهالي مترامية في هناجر وزوايا الشارع وساحات المساجد لاتزال تحمل على قطعها تراب دماج الممتزج بروح اهاليها.
قابلنا الطفل "عمر الصغير" ذي العشر سنوات قص لنا بعيونه الحزينة مقتل ابيه في احد المعارك وحضن اخيه الصغير الياس وهو يقول: قتلنا الحوثيين بالصواريخ والدبابات وهجرونا من ديارنا الى هذا المكان. سألته أي مكان اجمل.. ضحك خجلاً، قال: "هنا لا يوجد حرب".
دخلنا احد المنازل المجاورة للمسجد وجدنا بعض المهجرات من نساء دماج، تحدثت ام عمر، والتي كان الحزن متلبدا في وجهها وعيناها خاويه كأنها عيون موتي تقول: ماذا احدثك عن 100 يوم من القتل والحصار والتجويع؟ رعب وحزن لم يرحموا طفلا او امرأه بل تجاوز ذلك التطاول على رب العالمين عندما كانوا يفتحون مكبرات الصوت ويقولون: "يا حجورى هل ربكم سينفعكم؟!". أو احدثك عن نساء اجهضن من الخوف والجوع والتعب ومنهن من مات صغيرها قبل ان يولد كزوجه مطلق الوادعي، ايام عسيره تمضي على النساء وهن في حاله الوضع، ولا دواء ولا غذاء وتحت القصف والقنص.
تتنهد بعمق وهي تقول: آم عبد الرحمن الحيمي امرأة حامل، قصة من مئات القصص المفجعة التي حدثت خلال الحصار والقتل خرجت من حمام منزلها لتجد ابنها الصغير، وقد خرجت امعاؤه برصاصة قناص ولهول المنظر ظلت تمسك به تحاول ادخالها وانقاذ صغيرها لكنه فقد الحياه من بين ايديها اخذوه وهي كالمذهولة ممسكه به ففقدت وعيها وكذلك دخلت في حاله نفسيه مستعصية.
وتضيف: في يوم الجمعة كنت متهيئة للصلاة، فسمعت صوتا رهيبا هرولت مسرعة لأجد الطفل "غازي الوادعي" وقد مزقت الرصاص رجله اصيبت امه بحاله هستيرية وخاصه عندما اسرعوا لا سعافه ولم تستطيع رؤيته بسبب الضرب الشديد، فظلت مفارقه له طيلة شهرين لا تعرف عن حال ابنها سوى اخبار، كان هذا من المشاهد الصعبة التي اراها كذلك موت الاطفال الذين جفت حليب امهاتهم ولم يجدن شيء حتى يبقين اطفالهن على قيد الحياة.
ام عمر فقدت زوجها في احد المعارك وبقيت جثته فتره طويله في العراء مع مجموعه اخرى من الشهداء لم تراه خرجت من دماج وقلبها معلق هناك. ابنتها الصغيرة رقيه "5سنوات" صامت اربعه ايام لان امها قالت لها عند سؤال ابنتها المتكرر عن ابيها "نصوم ونصلي وسوف نرى اباكِ" وكلما سألها احد تقول "ابي في الجنة سوف يرجع".
قالت ام عمر ودموعها معلقه: عندما خرجنا من دماج كنت ابكي على زوجي والارض التي ارتبطنا بها لست سنوات التفت ورائي فرأيت البيوت المدمرة، ورأيت الاشجار وكل شيء فشعرت ان قلبي انتزع من مكانه وكانت اخر كلماتي "حسبي الله ونعم الوكيل" فلماذا هذ السكوت والخذلان عن جرائم الحوثي.
تضيف ام جميل: نحن خرجنا بعد الحصار بشهر فلم استطع تحمل كل هذه الاوضاع والمشاهد من الجوع والقتل ولم اقدر على الجلوس في الملاجئ والجروف الضيقة الخانقة فانا مريضه ومتعبه فتركت كل شيء هناك.
تقول: افزعني كل ما رأيته وخاصة الطفل الذي مات امام عيني من شده الجفاف واطفال اخرون كانوا يعانون الجوع ونساء اخريات اصبن بحالات نفسية فمنهن من فقدت ابنها او زوجها او قريبها. وتتابع: 18 عاما ارتبطت روحي بدماج تلقيت فيها علم ودعوة والتعايش بسلم ومحبه لم نريد من الدنيا غير رضى الله فلم يتركنا الحوثيين بحالنا فاراد السيطرة على اخر معقل له في صعده.
مأساة بعين عجوز
بارتجافة ودموع تحفر تجاعيد وجهها تحدثت "ام قاسم الربوعي" وهي ترينا ثوبها المهترئ وقد احترقت اطرافه برصاصة قناص حوثي وهي ترعي الاغنام، وكاد ان تقتلها لولا ستر الله.. تقول: 18 عاما اعيش بدماج فكل سكانها هم ابناي واخواني، تراب دماج يسري في دمي وروحي ارضها اشجار وطين بيوتها.. نزلت دموعها وبحرقه وهي تسرد المشاهد التي عاشتها خلال الحرب، تقول: أكثر من 70 امرأة ولدت لم يجدن غير كوب ماء فقط بجانبهن واحيانا يتم طحن الارز وعمل "عصيدة" لهن اضطر الأهالي لذبح اغناما "حبلي" حتى يعطوا النساء التي وضعن مواليدهن وعندما نفذ كل الطعام.. شهقت باكية وتابعت: تقاسمنا الخبز والفتات حتى مات بعض الاطفال جوعا وجفافا وقتلت عجوز امامي وهي تتأهب للخروج للبحث عن طعام للصغار، كنا ندعو الله ان يحمينا وينجينا من هؤلاء القتلة، العالم تخلى عنا ونحن نقتل كل يوم بصواريخ الحوثي، اشارت الى المكان المزدحم والاطفال الايتام والارامل وهي تقول: انظري حالنا لانعرف ماذا نعمل لا بيوت ولإطعام ولاشى ننتظر رحمه الله والناس الخيرين، ثم بكت بكاء حارا وهي تقول: "كنت اتمني ان تدخل الرصاصة قلبي ولا اترك دماج" واستمر بكاءها.
الطفلة "سارة" ارتجفت يدها وشفتاها وهي تحدثنا عن مشهد مقتل احد الشباب امامها كذلك منظر الاطفال والنساء اللائي يمتن او يلدن امام الجميع في الجروف وشهور الرعب التي تحملها ذاكرتها، دمعت عيونها وهي تقول: "تركنا دماج كأننا تركنا ارواحنا هناك".
كذلك هي الطفلة "ماريا" التي فقدت اباها، تقاسمت هي وسارة نفس المعاناة والليالي المرعبة ومرارة التهجير، وقبل توديعنا لهم افرغت "أم عمر" كيسين بهما مجموعه كبيره من بقايا الأسلحة التي كان يستخدمها الحوثي لقتلهم.. كذلك الرصاصات الأربع عيار 12/7 التي دخلت دارها واصابت الطفل وقالت: احتفظ ابني عمر "بهذه البقايا وهي يتوعد ان ينتقم لأبيه، فأولادي لن ينسوا ابيهم وسيتذكرون من قتله ومن هجرنا من ديارنا.
التقينا "ابو عاصم" احد المشرفين على أسر المهجرين وهو يقلب دفترا فيها اسماء العوائل المهجرة، وكذلك أسماء أسر الشهداء. كان مع مجموعه كبيرة من الرجال الذي يسكن وجوههم القهر يحاولون جمع اثاثهم وترتيب امور أسرهم، ففي حارة مسجد البشائر يقطن اكثر من 153اسرة معظمهم من الاطفال والنساء 25منهم اسر شهداء، كذلك منهم المرضى والعاجزين.. يقول: "كما ترين الوضع معظم الاثاث لازال في الشارع حاولنا تفريقه بين هناجر ومنازل الاخرين كذلك الاسر وهناك كثير من الاسر بلا مأوي، وجدنا فقط بعض المساعدات من جمعيات خيريه وهناك من تبرع بملابس كذلك الطعام نطبخه ونوزعه عليهم، هذا هو حالنا، اما الدولة فقد تخلت عن وعودها ومسؤولياتها واتفقوا هم والحوثة على ظلمنا واخراجنا".
هجرة لمنازل الآخرين
لم يكن التهجير القسري في صوره البشعة هي الحادثة الاولى لمليشيات الحوثي بل سبقتها تهجير لأكثر من 200 الفاً من ابناء صعده، فقد سبقتها العديد من الجرائم الإنسانية من تشريد آلاف الأسر وتدمير البيوت وازهاق النفوس، وتعطيل مصالح الناس وتغييب براءة طفولة، وانتهاك الحرمات، وتدمير البنى التحتية، وذبح الكبرياء والكرامة في مسالخ المنتفعين؛ صور شتى من المعاناة والإذلال .
فهناك من أهالي صعده من هجر مرتين، فخلال الحروب السته وتهجير الأهالي نزح مئات منهم الى دماج طلبا للأمان ولكن لم يجد من ذلك غير تهجير اخر وبصوره اقسى وابشع.
تقف "ام معاذ" بجسدها النحيل امام منزل احد الاشخاص الذين فتحو بيوتهم للمهجرين، تسرد معاناتها منذ لجأت لدماج بعدما قتل الحوثيين اهلها واحرقوا قريتهم واحتل بيوتهم.. تقول: "لم تكتمل فصول المعاناة والتهجير بل لحقونا الى دماج الأمنه بدانا بالاستقرار بها والالتحاق بدار الحديث كنا نشعر بالراحة والطمأنينة، ولازلنا في ارضنا فلم يرق للحوثي ذلك فدمر دماج وحاصرنا جوعا وقتلا".
تابعت باكيه انا واولادي واحفادي اكثر من 20 نفسا في منازل الاخرين تركنا دماج اخر ارض لنا، فأخرجونا منها مرغمين وماجدنا غير وعود من الرئيس ولى الامر".
قفز طفل غطت طبقة من الشوكولاتة الذائبة بيده وجهه وثيابه، تفاجأنا من لهفة الصبي الذي سألني: "انتم جمعية؟ امي مريضة وتحتاج إلى علاج! الحوثة هجرونا من بيوتنا وقتلوا والدي واختطفوا اخي ونحن بصعده! أتمنى أن أعود الآن إلى بيتنا ودماج التي كنا نعيش فيها!".
كانت دموع النساء باقيه في مقلهن، تقول ام زهراء: "غادرنا بيوتنا مرغمين في الحروب السته وهربنا لدماج، حاصرونا قتلا وجوعا والعالم يتفرج قتلنا في الحروب بصعده ولم يكتفوا فجاءوا الى الناس البسطاء الذين يعيشون حياتهم فقط لله، هجرونا في المرة الاولى ولم يتحدث عنا احد وللمرة الثانية نهجر فتركونا للشارع".
عشنا لله.. فكان جزاؤنا التهجير
وجه اخر لمسجد السنه بسعوان حيث يتكدس عددا آخر من الاطفال والنساء ومنهم جنسيات اخرى، اول الوجوه كانت لأثيوبيات يفترشن سلم المسجد دخلنا فوجدنا عددا اكبر جمعت ملامحهم الحزن والالم، وجدنا ثلاث شقيقات قتل ازواجهن في الحرب تجد السنتهن تلهج بالحمد وعندما ينظرن الى اطفالهن الصغار يختنقن بالدموع.
تقول ام تركي: "تحلينا بالصبر ونحن تحت القصف والجوع ننتظر الموت في كل لحظة، ماذا يريدون من دماج وهي ارض علم وسنة؟ شن الحوثيين الحرب على الدين والتعايش والسلم وهجروا الناس بحقدهم التاريخي".
وتقول ام عبد الملك: "كنا ندعو الله ليلا ونهارا في اماكننا لا نقدر على الحراك من شده الزحام فهناك طفل مات من شده الاسهال ولم نجد له دواء ونساء قتل ازوجهن ولم يستطعن رؤيتهن".
وتتابع ام عبدالرحمن: "ضُربنا بأنواع الأسلحة 100يوم ولم نر طائرة واحدة تحمينا، وعندما جاءت الطائرات لنقل الشيخ لم نسمع اي اطلاق نار، نقول لم اخرجونا؟! حسبنا الله ونعم الوكيل".
جلست بجانبنا طفله أثيوبية اسمها "اسماء" قالت لي حزينة ان والدها قتل في الحرب وهي وامها واخوتها الصغار يريدون ان يرجعوا لدماج فليس لهم مكان اخر إلا هناك.. وبكلمة واحدة قالت لي احد الامريكيات ان لها عمرا طويلا في دماج جاءت تطلب العلم فقط، توارت بدموعها وامتنعت عن الحديث.. اخريات من الجنسيات المختلفة كان الحزن الشديد على وجوههن، وملامح الضياع وسؤالهن الوحيد لماذا دمروا دماج وهجروا اهلها، ومطلبهن دار للعلم يكملن حياتهن فيه.
امسكت بي المسنه ام زبيبة -أثيوبية الجنسية- وهي تقول لي: "هل ستقولين الحق وتوصلين هذا الكلام للناس؟ اريد ان اعرف ما الذي في دماج سوى التراب والحجارة وناس بسطاء يعبدون الله ويطلبون العلم؟ عمري يتجاوز 70 ولى سنتان في دماج، انهم يعملوننا كتاب الله وسنة رسوله، لا يعلموننا ضرب النار والرصاص! اتمنى ان استشهد في دماج ولا ارجع لا اي مكان في العالم".
وواصلت بحرقه ودموع: "لماذا يخرج المسلم من دياره؟ لانهم يطلب العلم! لا نه يعبد الله! اقول للرئيس يخاف الله ولا يخاف امريكا او ايران فغداً موت ولن نرجع ويوم القيامة حساب" تركناها ودموعها وحرقتها وهي تدعو الله بان يفرج عنهم.
تهجير في الوطن!!
صنوف القهر والألم على فراغ الديار وضياع الممتلكات والتشرد لم تتوقف عند هكذا أمور فحسب، بل تعدتها إلى صور من الإذلال والمهانة بحثا عن لقمة عيش تسد جوع شيخ كبير، أو لحافا يغطي جسم طفل صغير، أو فراش يحتوي جسد أم ثكلى فقدت وليدها وتهجير في وطن يعشونه فيه غربا. تخلى فيه الراعي عن مسؤوليته ووقف الجميع صامتا امام هذه الجريمة الإنسانية.
الفقر والجهل والعوز، حتى لأبسط الاحتياجات الأكثر انتشاراً بين صفوف المهجرين، لاسيما الأطفال منهم، فيما بات الحلم بغد أفضل تشوهه صور الحروب وذكريات التهجير المرة العالقة في ذهن جيل كامل من أطفالنا.
شرعه التهجير قافله مستمرة لان هناك من يشرعون لها لأجل مصالحهم واستمرار حروبهم الحاقدة، وستكون الايام القادمة مسرح اخر لمثل هذه الجريمة وبرعاية دوليه ومباركة رئاسية اذا لم يتوقف هذا النزيف القاتل.