الوطن قد يكون حضرموت بالنسبة للحضارمة، وقد يكون المهرة بالنسبة للمهريين، وقد يكون عدن بالنسبة للعدنيين، وقد يكون بالنسبة لهؤلاء الجنوب كله، وقد يكون اليمن، وقد يكون العالم العربي كله أو الإسلامي، فيمتد بهذا إلى مساحات كبيرة من شعورنا حسب التغذية الثقافية التي تلقيناها نظرا لظروف سياسية وثقافية وتاريخية مختلفة التنوع، وعليه يتعدد الوطن ويتنوع في نفوسنا بتعدد هذه المتغيرات، وعليه فإن من العوامل الفاعلة في تحديد الوطن –كما يبدو – ما تشير إليه بوصلة الجغرافيا السياسية في اللحظة التاريخية المعاصرة، بحيث يمكن للظفاري أن يرى نفسه اليوم عمانيا أكثر من كونه يمنيا أو مهريا، وللحضرمي (ابن الصحراء) أن يرى نفسه اليوم إماراتيا ويتفانى في ذلك، إذ إن التعامل مع الوطن عمليا يتم بناء على الخارطة السياسية الفاعلة والمؤثرة التي تنبث عنها كل التكوينات الذهنية والوجدانية والمعيشية والحياتية.
والوطن يمكن أن يتحدد بالمجال الثقافي حين يتم الاشتغال على هذا الجانب وذلك بتركيز الوعي على مساحة من الأرض: تاريخها وإنسانها ورقصاتها ولهجتها وموسيقاها ومطبخها وأزيائها وسيكولوجية أهلها.. إلخ، ولأن المجال الثقافي بالنسبة لحضرموت خلال الخمسين سنة الماضية تقريبا لم يتم التركيز عليه بصورة رئيسة بوصف حضرموت كانت جزءا من الجغرافيا السياسية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ثم جزءا من الجغرافيا السياسية للجمهورية اليمنية نجد الكثيرين آمنوا بفكرة اليمن وطنا، ويؤمنون الآن وبصورة أشد بفكرة الجنوب وطنا إذ يؤجج الواقع السياسي الراهن هذه الفكرة الأخيرة بصورة أكبر من غيرها، كما آمنوا بحضرموت وطنا أشد التحاما بوجدانهم وواقعهم السياسي والجغرافي قبل عام 1967م، ولعل بعضهم يؤمن بحضرموت وطنا في إطار شبه الجزيرة العربية، وستظل حضرموت وطنا خاصا بالمعنى الثقافي الذي لا يمكن إلغاؤه والذي يمكن أن يترتب عليه قيام حضرموت بالمعنى السياسي في أي مرحلة من مراحل التاريخ إذا ما تهيأت الظروف لذلك.
إن المهم هو من ينجح في تسليط الضوء سياسيا وثقافيا في مرحلة زمنية معينة على رقعة معينة من الأرض بوصفها وطنا ويعمل على تعزيز خارطتها السياسية، ويكسب الناس وجدانيا وعمليا إليها، ولعله من هذا المنطلق يتعدد معنى الوطن حيث يرتسم في منظور الناس النفسي الوجداني بصورة معينة، وفي المنظور السياسي الجغرافي له صورة أخرى، وفي المنظور الإعلامي المتحرك يتشكل بصورة ثالثة مختلفة، وفي المنظور التاريخي يظهر بصورة رابعة، وهكذا دواليك. ولعله من هذا المنطلق جاء تعريف الوطن في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) فضفاضا فـ ((الوطن هو عبارة عن المكان الذي يرتبط به الشعب ارتباطا تاريخيا طويلا. المنطقة التي تولدت فيها الهوية الوطنية للشعب، أو باختصار ذلك المكان الذي يمكن أن يفدى بالروح والمال والدم. ليست هذه المنطقة الجغرافية بالضرورة مكان ولادة الشخص، بل هي المنطقة الجغرافية لتي ولدت فيها أمته)) لأن السؤال الذي يعجز هذا التعريف عن الإجابة عنه هو: كيف يمكن تحديد هذا المكان (الوطن) ؟ هل هو وطن محلي، أو وطن قومي قومي؟ وهل الأمة التي يتحدث عنها التعريف جماعة محددة كالأمة الحضرمية كما كان يرد هذا الوصف في صحف حضرموت الصادرة في الخمسينيات، أو أمة كبيرة شاملة كالأمة العربية؟
المهريون والشبوانيون يطرحون الآن أنهم ليسوا حضارمة ولا يمكنهم الانضمام معهم في إقليم مستقل لو حدث ذلك افتراضا، لكن يمكن ترسيخ ذلك عمليا وسياسيا على الأرض كافتراض غير مستبعد، فالناس في مرحلة من المراحل يؤمنون بوطن على طريقة معينة، وفي مرحلة أخرى يؤمنون بوطن آخر أوسع أو أضيق، فمع اشتداد المد القومي العربي ضعف إحساس الناس بمحلياتهم، وآمنوا بالوطن العربي الكبير واندفعوا إلى ذلك، ومع ارتفاع سهم المحليات الوطنية التي تم تكريسها بعد نكسة يونيو 1967م صار الناس يؤمنون بأوطانهم فقط، أو يؤمنون بها قبل الأمة العربية.. فهل ستكون المهرة وطنا، وينطبق عليها ما ينطبق على أي وطن ثقافيا وسياسيا كما ينطبق على حضرموت وغيرها؟ الواقع السياسي الذي تعيشه الجمهورية اليمنية يشي بالتحول، وأيها أقدر على ترسيخ وجوده على الأرض يمكن أن يكون وطنا .. وقد ارتفع سهم الجنوب أكثر من غيره في هذه المرحلة، مع احتمال بروز بوادر أخرى يمكن أن تظهر في أية لحظة، فأيها يكون الوطن؟