البكاء على الجنوب والجنوبيين من قبل الحوثيين الجُدد اليوم يقتضي – من باب الذكرى- تحديد معنى “الجنوب”: جغرافية ومجتمعات إنسانية منذ دخول الإمام يحيى بن الحسين إلى اليمن، وكيف كان الحوثيون القدامى بزعامته ينظرون إلى الجنوب والجنوبيين: ديناً ومذهباً! وكما هو ثابت من حكم الحوثيين وأئمتهم في كتبهم وفتاواهم الموثّقة من قبل أتباعهم! وتحديداً فقد كان مسمى الجنوب اليوم جزءاً من الأرض اليمنية الواحدة في ظل الدولة الإسلامية، وأبرز مناطقه: عدن، وحضرموت تليهما مناطق مثل يافع.
وفيما بعد عندما استتب النفوذ السياسي والمذهبي للدولة الهادوية ظل جزءاً كبيراً من اليمن متمايزاً عن هيمنته المذهبية ورافضاً لها (والسياسية في بعض الفترات)، ومن الناحية الجغرافية كان هذا الجزء المخالف المتمرّد يقع في جنوب الدولة الهادوية في شمال الشمال، ويشمل أيضاً ما صار يُسمى بجنوب اليمن الممتد حتى المهرة.
[2]
وعندما وصل الإمام يحيى بن الحسين إلى صعدة عام 284هـ للمرة الثانية؛ لم تكن اليمن أرض كُفار، ولا كان اليمنيون قوماً من الوثنيين أو اليهود أو النصارى أو عباد البقر، فقد كان مر على دخول الإسلام اليمن أكثر من 270 سنة، وكان اليمنيون قد صاروا جزءاً من الأمة الإسلامية، واليمن بجغرافيته التاريخية القديمة من أقصى شرق الجزيرة العربية حتى أقصى الغرب على سواحل البحر الأحمر، كان قد صار أرضاً إسلامية، ومنضوياً في إطار الدولة الإسلامية من زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين مروراً بزمن الأمويين والعباسيين حتى زمن وصول الهادي، حيث كانت اليمن يحكمها أمراء محليون باسم الخليفة العباسي.
ومن الثابت أيضاً أن اليمن في غالب مناطقه يومذاك كان على مذاهب أهل السنة والجماعة: فقهياً وعقائدياً.. وتحديدا كان المذهبان الفقهيان الغالبان قبل وصول الإمام إلى صعدة هما المذهبان: الحنفي والمالكي، وفي مطلع القرن الثالث دخل المذهب الشافعي، وصار هو الغالب في القرون التالية. وفي المقابل، فرغم أن المذهب الهادوي سبق المذهب الشافعي بسنوات قليلة؛ إلا أنه لم يتمكن من الانتشار بنفس السرعة حتى في المناطق الجغرافية التي صارت تُوسم تاريخياً بأنها مناطق هادوية، فقد واجه مقاومة شرسة من السابقين، كما أن الدعوة الهادوية انغمست في سلسلة لا نهائية من المعارك والحروب مع خصومها السياسيين والمذهبيين بالإضافة إلى الصراعات الدامية على السلطة بين الطامعين بالإمامة من المنتسبين للبيت العلوي.
[بعض المناطق في حجة والمحويت والأهنوم مثلاً لم يدخلها المذهب إلا متأخراً بقوة الأئمة، وبعض المناطق مثل شهارة وهجر الأهنوم لم يسد المذهب فيها إلا في زمن الإمام محمد المنصور والد الإمام يحيى حميد الدين.. انظر الجزء الرابع ص 1832 من هجر العلم ومعاقله للقاضي إسماعيل الأكوع].
هذا المذهب، العقائدي والفقهي لأهل السنة والجماعة، ظل وما يزال هو الغالب في اليمن حتى الآن؛ جغرافياً وسكاناً.. وحتى عندما سيطر الحوثيون القدامى على اليمن كاملاً لفترة قصيرة في أيام الإمام المتوكل، أو عندما شملت سيطرتهم كل ما كان يُعرف بشمال اليمن في القرن العشرين الميلادي؛ ظلت مناطق واسعة متمسكة بمذهبها السني: فقهياً وعقائدياً. وكما سلف، لم تنجح محاولات الأئمة إلا متأخرة في الحلول محلها في جزء من مناطق حجة، والمحويت، وذمار، وإب، والبيضاء.. ويمكن بسهولة ملاحظة أن المحافظات اليمنية ذات الثنائية المذهبية التي لم تنجح عملية تشييعها بالكامل؛ هي تلك التي تحيط بالمناطق التي قيل فيها إن صخورها تتشيّع للإمام، وكانت لمئات السنين محلاً لوجود الأئمة، وصراعاتهم الدموية، ونفوذهم السياسي والمذهبي.
وربما كان من أبرز أسباب ذلك: اعتزاز الناس الطبيعي بمعتقداتهم الدينية وتمسكهم بها، والوجود الراسخ للعلماء والمدارس العلمية، وشعور اليمنيين السنة أن ما يؤمنون به أرقى من الطابع المتطرف التكفيري للمذهبية الهادوية المعادية للصحابة ومذاهب السنة وأعلامهم، وبغضهم للحكم الدموي للأئمة الظلمة المتجبرين وعمالهم، ومعاملتهم التحقيرية لهم بوصفهم كفار تأويل ودينهم محرف!
كذلك يمكن القول إن الأئمة القاسميين الذين تولوا الحكم في فترة توسع الدولة الهادوية بعد رحيل العثمانيين الأول؛ غلب على أكثرهم المنحى العسكري، واستغرقتهم الصراعات على السلطة فيما يعرف بفترة الفوضى، ولم يكونوا أئمة مذهب (عقائديين كما يقال الآن) على طريقة الإمام عبد الله بن حمزة وأشباهه!
ومن هنا حافظت المناطق السنية على طابعها المذهبي الذي ترسّخ مئات السنين؛ رغم محاولات الاختراق وفرض بعض الشعائر الهادوية بالقوة.
ومن نافلة القول إن جنوب اليمن المعروف الآن بالمحافظات الجنوبية، وسكانه – كما يوصفون اليوم بالجنوبيين- كانوا من ضمن تلك المساحة الجغرافية والانتماء المذهبي الذي يُوصف بأنه على مذهب أهل السنة والجماعة، يعتقدون بعقائد أهل السنة والجماعة المعروفة كما عبّرت عنها، ويتعبدون وفق مذاهبها الفقهية خلافاً لما هو موجود في الدائرة المذهبية للحوثيين القدامى ودولتهم من بدايتها حتى سقوطها.
وسنرى كيف أن علماء من مختلف هذه المناطق ومنها حضرموت من تصدّى للمذهبية المتطرفة للهادويةالحوثية وخاصة في مواقفها المكفِّرة للصحابة والسّنة بمن فهم الجنوبيون في عهد الإمام المتوكل.
وللوحدة المذهبية العقائدية والفقهية لذلك الجزء المخالف للمذهبية العقائدية والفقهية الإمامية فيمكن القول بدون تجاوز إن كل الفتاوى والأحكام المذهبية التي كالها الأئمة الهدوية/ الحوثيون القدامى بشأن المناطق اليمنية الرافضة لهم ولمذهبهم العقائدي والفقهي، ولليمنيين المعارضين لهم والرافضين لمذهبهم العقائدي خاصة؛ تلك الفتاوى التكفيرية والأحكام الظالمة تشمل بالضرورة كل المناطق التي ذكرناها ومنها: ما صار يعرف بجنوب اليمن، أو المناطق والمحافظات الجنوبية، أو بتعبير دعاة الانفصال اليوم: الجنوب العربي، وتنال بأحكامها وفتاواها من سكان تلك المناطق الذين يسمون الآن بـ”الجنوبيين”!
[3]
ومن المستحسن الآن الحديث عن أصول المذهب العقائدي السّني الذي كان معظم اليمنيين ومنهم “الجنوبيون” يعتنقونه عند دخول الهادي، وحتى اليوم؛ تمهيداً لنعرف في الأسابيع القادمة رأي الحوثيين القدامى في هذه العقائد بالتفصيل، وكيف كانوا يصنفونها في ميزان عقيدتهم المذهبية، وعلاقتها بالكفر والإيمان وفق فتاوى فقهائهم؛ وفي مقدمتهم الإمام الهادي يحيى بن الحسين نفسه، الذي وضع الأساس المُر لكل ما أصاب اليمنيين والجنوبيين السّنة على وجه الخصوص من تكفير وتفسيق وصل إلى درجة مهولة كما سنعرف في الحلقات القادمة!
سنعتمد هنا في سرد بنود عقيدة أهل السنة والجماعة في المسائل الخلافية الشهيرة (التي اقتضت تكفير السنة لدى الحوثيين) على ما أورده الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه “تاريخ المذاهب الإسلامية”، لما يتمتع به الكاتب والكتاب من اعتراف بالإنصاف في الأوساط الهادوية، وحرصهم على بيعه في مكتباتهم. في الكتاب استعرض الشيخ عقائد أهل السنة كما هي لدى فصائلهم الثلاثة: الأشعرية، والماتريدية والسلف الذين تبلور مذهبهم على يد ابن تيمية.
ولأن بعض الحوثيين الجدد (القدامى وأشباههم اليوم لا يفرقون ولا يمايزون) يحاولون التملص من تكفير أهل السنة بالقول إنهم يحترمون المذهب الأشعري الذي يعتنقه الشافعية في اليمن، وألاّ مشكلة معهم تجاهه، وأن تنديدهم أو رفضهم فقط هو لما يسمونه مذهب السلفيين أو الوهابيين الحنابلة. ولذلك فإننا سنعتمد في ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة اليمنيين ومنهم الجنوبيون على عقيدة الأشاعرة، كما بسطها أبو زهرة في كتابه نقلا عن كتاب “الإبانة” لأبي الحسن الأشعري. والحقيقة أنه لا يوجد اختلاف كبير بينها وبين بنود شبيهاتها لدى ابن تيمية أو الماتريدية؛ بل الماتريدية تعد على يسار الأشاعرة -إن جاز التعبير- وأقرب للمعتزلة، وفي مسألة الاختيار والجبر مثلاً يقول أبو زهرة إن رأي ابن تيمية أقرب للمعتزلة ويراهم أقرب إلى العقل من رأي الأشاعرة! ونحن نرجو الاحتفاظ بما سنذكره هنا أو العودة إلى الكتاب عندما نستعرض مستقبلاً موقف الحوثيين القدامى والجدد تجاه عقيدة السنة في اليمن؛ حتى نعلم أن الذين كفروهم كانوا يقصدونهم بالتحديد، ولم يكونوا يقصدون الحنابلة أو الوهابيين أو الإصلاح، أو الفرقة الأولى مدرّع، بل سوف نقرأ اتهامات بالتكفير للأشعرية في أبرز كتب الهادوية الحوثية!
[4]
كما هو معروف، هناك مسائل عقائدية مشهورة وقع فيها الخلاف بين المسلمين، وصارت تُوصف بأصول الدين لدى هذه الفرقة أو تلك، ويترتب عليها الكُفر أو التفسيق. وسنذكر البارز منها لدى الأشاعرة لمقارنتها بمثيلاتها لدى الحوثيين القدامى، والتي عدوّها موجبة للكفر والفسق عند من يؤمن بها!
[جملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئاً.. وأن الله استوى على عرشه كما قال الله تعالى (الرحمن على العرش استوى)، وأن له تعالى وجهاً كما قال تعالى (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وأن له يداً كما قال تعالى (بل يداه مبسوطتان)، وأن له عيناً بلا كيف كما قال تعالى (تجري بأعيننا)، وأن لله علماً كما قال تعالى (أنزله بعلمه)، ونثبت لله قوة كما قال تعالى (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة)، ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية، ونقول إن كلامه غير مخلوق، ولم يخلق شيئاً إلا وقد قال له: كن فيكون، وأنه لا يكون في الأرض شيء شر ولا خير إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله، ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أفعال العباد مخلوقة لله ومقدرّة كما قال الله (والله خلقكم وما تعملون)، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون....]
- [.. وأن الله وفّق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم ونظرهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تعالى (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون).. وإنا نؤمن بقضائه وقدره خيره وشره، حلوه ومرّه، ونعلم أنه ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.. ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال بخلق القرآن كان كافراً به، وندين أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول إن الكافرين عنه محجوبون...].
- [.. ونرى ألاً نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر. كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون، ونقول إن من عمل كبيرة من الكبائر مستحلاً لها كان كافراً إن كان غير معتقد تحريمها، ونقول إن الله يخرج من النار قوماً بعدما امتشحوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم..]
- [.. وندين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم، ونقول إن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه- وإن الله أعز به الدين، وأظهره على المرتدين، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه، قتله قاتلوه ظلماً وعدواناً، ثم علي بن أبي طالب فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد للعشرة المبشرين بالجنة الذين شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونتولى سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونكف عمّا شجر بينهم، وندين الله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدون مهذبون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم..].
[ لا يمتنع في كل المذاهب أن يظهر أفراد أو جماعات منها تخرج عن بعض أصولها او تتطرّف في فهمها.. فقد يظهر من ينتسب للسنة ويبالغ في إثبات صفات الله إلى درجة تُوحي بتشبيهها بصفات البشر.. وفي تاريخ الهادوية ظهر أمثال ذلك مثل الذي ادعى أنه الإمام المنتظر، أو كطائفة الحسينية الذين زعموا أن الحسين العياني أفضل من رسول الله، وأن كلامه أبهر من القرآن! أو مثلاً آراء المطرفية – بصرف النظر عن صحتها من عدمها إلا أنهم هادوية- التي كفرهم بسببها الإمام عبد الله بن حمزة رغم زيديتهم، ورغم أنها آراء فكرية فلسفية، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبى نساءهم وذراريهم !].
هنا عدن – المصدر أونلاين