لحلقة العاشرة
تلمسان ..المدينتان .. عاصمة بني زيّان ومنارة الإسلام في المغرب الأوسط
مع الضحى وقبل أن ينتصف النهار وصل قطار المغرب العربي إلى محطته المركزية في مدينة تلمسان ، والتي تعد اليوم رابعة مدن الجمهورية الجزائرية من حيث الأهمية التاريخية والحضارية والاجتماعية بعد كل من الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة . أما من حيث الحجم السكاني فهي تأتي في المرتبة الثانية عشرة في عدد سكانها في مجموعة مدن عواصم ولايات الجمهورية الجزائرية، وحيث يصل عدد السكان مدينة تلمسان إلى حوالي 173 ألف نسمة (2010م) .ولاشك أن هناك جملة من الأسباب الجغرافية الطبيعية والبشرية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها والتي تحد من زيادة عدد سكان مدينة تلمسان . وليس المقام هنا مناسب لشرح تلك الأسباب وتحليلها .ورغم ذلك فإن مدينة تلمسان تحتفظ بمكانتها المرموقة في منظومة المدن الجزائرية ذات النكهة الخاصة والتاريخ والجغرافيا المميزة .
وقد اختيرت عام 2011م كعاصمة للثقافة الإسلامية . وقد سبقتها بعام مدينة تريم في حضرموت بجعلها عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2010م . وهناك اوجد تشابه كثيرة بين تلمسان الجزائرية وتريم الحضرمية رغم الفاصل السكاني الواضح بينهما .
ويطلق أهل تلمسان على مدينتهم (مدينة الفن والتاريخ) . والفن في تلمسان يتبدى للمرء من أول مشاهدة لها في نمط العمران والبنيان وفي الأسوار العالية التي تحيط بها ، وكذلك في جملة من مظاهر الفن الأخرى في الحياة الاجتماعية والثقافية وفي الصناعات التقليدية والزخارف المنقوشة على المنازل وفي بناء المساجد ذات الطابع الأندلسي الصرف ، وكذلك في الملابس والأزياء وغيرها مما لا يمكن حصره في هذه العجالة .
أما التاريخ في تلمسان فهو يحاصرك مع كل التفاتة وكل خطوة تخطوها في دروب وأزقة وساحات هذه المدينة التاريخية العريقة ، وحيث أن كل ركن فيها وكل مبنى وكل شارع وزقاق له تاريخ وحوادث وذكريات معروفة وموثقة عند أهلها .
ويقول أهل تلمسان ان تاريخ مدينتهم يعود إلى ماضي بعيد جداً ، وان بها الجدار الذي أقامه الخضر مع النبي موسى عليهما السلام والمذكور في القرآن الكريم والذي بني في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد .غير ان ابن خلدون يعترض على هذا القول ويعتبره أسطورة من صنع أهالي تلمسان لتمجيد مدينتهم والافتخار بها .
ورغم ذلك فان تاريخ مدينة تلمسان يبدأ في الظهور في كون أراضيها وما حولها ضمن أراضي مملكة نو ميديا الغربية،وهي مملكة امازيغية تمتد أراضيها من نهر الشلف شرقاً الى نهر ملوية غرباً . وقد ظهرت خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد . وكان يحكمها عدة ملوك نو ميديين ومن بينهم الملك فرمينا ابن الملك (سيفاكس) والذي يسميه ابن خلدون (سفك). وهو الذي جعل من مدينة عين تموشنت عاصمة له ، وهي تبعد حوالي 55كيلو متراً الى الشمال من تلمسان.وكانت لهذه المملكة النوميدية الغربية علاقات دبلوماسية مع كل من قرطاج وروما ، مما يبين استقلاليتها .وكناقد اشرنا عند وصولنا إلى قسنطينة بشرقي الجزائر إلى المملكة النوميدية الشرقية فيها والتي عاصمتها سيرتا وهي المعروفة اليوم بقسنطينة. ومن المناطق الأثرية التي عثر فيها على بقايا بشرية في العهد الحجري منطقتي بودغن وبني بوبلان بالقرب من تلمسان .
وفي عام 201م أقام الرومان بعد احتلاهم لهذه المنطقة مدينة (بوماريا) .وإطلالها تقع اليوم شرقي تلمسان الحالية . وقد جعل الرومان من بو ماريا هذه معسكراً حربياً ، وكانت تمثل خط الدفاع الأخير عن الأراضي الخاضعة لحكم روما ثم أصبحت مركزاً دينياً للمسيحية الكاثوليكية .وفي عام 429م احتل الو ندال القادمون من اسبانيا بو ماريا هذه.
وفي عام 708م دخل المسلمون إلى تلمسان بقيادة دينار أبو المهاجر في عهد دولة بن أمية.وأصبحت تلمسان من ذلك التاريخ جزءاً من دولة الإسلام . وقد آل الحكم فيها إلى قبيلة زناتة الامازيغية .وقام قائدهم (ابو قرة اليفريني) في عام 790م ببناء مدينة جديدة على انقاض مدينة بو ماريا الرومانية واسمها (أغادير) وتعني بالامازيغية القلعة .وقد جعل منها عاصمة لدولته المسماه الدولة الصفرية والتي أعلن عن قيامها منذ عام 767م في حركة تمرد وثورة ضد الحكم العباسي وتبنى مذهب الخوارج وجمع حوله العديد من قبائل الامازيغ في المغرب الأوسط وأعلن نفسه إماما للمسلمين .ويقال انه قد تخلى عن كل ذلك بعد إن واجه العديد من الثورات ضده وبعد ان زادت الانقسامات في صفوف قبائل الامازيغ في منطقة المغرب الأوسط وخصوصاً في قبيلة زناتة التي ينتمي إليها أبو قرة هذا.
وفي عام 1081م استلم زمام الحكم في أغادير هذه يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين ومؤسس دولتهم الممتدة من الأندلس إلى المغرب الأقصى والى المغرب الأوسط .وهو من قبيلة لواتة من صنهاجة.وهناك رأي لم يتأكد بعد علمياً وهو علاقة حضرموت بقبيلة صنهاجة هذه. والمهم ان يوسف بن تاشفين بني مدينة أخرى غربي أغادير والتي بناها من قبله أبو قرة اليفريني وأطلق بن تاشفين على مدينته الجديدة مسمى (تقرارت) وتعني بالامازيغية المعسكر .والمعروف أن يوسف بن تاشفين هو باني مدينة الرباط أو رباط الفتح عاصمة المملكة المغربية اليوم ، وحيث كانت دولة المرابطين من اقوى دولة المغرب العربي آنذاك وقد شملت مناطق واسعة في كل من الأندلس والمغرب الكبير.
وبهذا نجد إن مدينة تلمسان الحالية قامت في الأصل على مدينتي أغادير وتقرارت وهما نواة تلمسان اليوم ، وحيث إن كلمة تلمسان هي كلمة امازيغية كما يقول البعض وتعني ( التجمعان السكنيان) أو المدينتان .ولكن هناك من يرى إن كلمة تلمسان مركبة من كلمتين باللغة الامازيغية هي(تلا) وتعني الجاف . اي المنبع الجاف أو البئر الجافة.
ونظراً لكثرة ينابيع هذه المدينة فالبعض يقول إن كلمة امازيغية هي تلمسين وتعني جيب الماء أو منبع الماء .وتكون تلمسان هذه بمعنى مدينة الينابيع .أما أنصار عروبة المدينة فيقولون إن كلمة تلمسان اتت من كلمتين عربيتين هما (تلم) و(إنسان) وبهذا تصبح تلمسان هي (مجمع الناس ).وهذا رأي غير مقبول عند البعض ولا يرى له سند علمي وتاريخي .
ومهما يكن من أمر في دلالة اسم هذه المدينة فلا شك انه امازيغي الجذور مما يؤكد الأسبقية للامازيغ في سكنى وبناء هذه المدينة ، كما انه يؤكد إنها قامت على ضم شطرين أو مدينتين وهما أغادير وتقرارات إلى بعضهما وحيث إن هاتين المدينتين قد بنيتا من قادة مسلمين من الامازيغ وكما اشرنا إلى ذلك آنفاً .
وفي عام 1282م أصبحت تلمسان هذه عاصمة لدولة بن زيان التي استمرت في الحكم زهاء ثلاثة قرون متصلة وهم من بن عبد الواد وينحدرون من جذور امازيغية . ومؤسس دولتهم هو يغمراسن بن زيّان .وفي عهده ومن تلاه من حكام بن زيّان شهدت تلمسان تطوراً عمرانياً وسكانياً وحضارياً ملموساً ،فالتحمت مناطقها العمرانية وازيلت بعض الأسوار التي تفصلها عن بعضها البعض .وأقيمت بعض الدور والقصور والمساجد والمدارس والمرستانات والأسواق والخانات والطرق وغيرها من مظاهر العمران، فطاب فيها العيش والاستقرار وأصبحت مقصداً لطلاب العلم والتجارة والأمان .وقد أقام فيها ابن خلدون زمناً في كنف سلطانها المسمى(أبو حمو موسى الثاني الزياني ).وكانت له قصة معروفة مع ابن خلدون اشرنا إليها عند تناولنا لمشاهداتنا لمدينة سيدي بلعباس المجاورة لتلمسان .
وعندما حدثت النكبة العظمى بمسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492م هاجر العديد من العرب والمسلمين من ديار الأندلس إلى المغرب العربي .واستقر البعض منهم في مدينة تلمسان . وكان مع هؤلاء بعض اليهود المرحلين من الأندلس .وأقام هؤلاء لهم حياً في مدينة تلمسان.وقد عمل البرتغاليون الذين كانت لهم اليد الطولى في تجارة المغرب العربي آنذاك على إدخال الحي اليهودي في مدينة تلمسان ضمن الوسط التجاري لهذه المدينة ، وذلك بعد إزالة بعض الأسوار التي كانت تفصل بين سكني كل من العرب والمسلمين وسكني اليهودي .
وفي عام 1517م دخل العثمانيون إلى تلمسان . وفي عهدهم شهدت تلمسان ازدهاراً عمرانياً وسكانياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً . وسادت حالة من التعايش السلمي بين سكان تلمسان ، وظهر من ذلك خليط من السكان في تلمسان يسمى (الكولوغوليين) أو القراعلة ، وذلك نتيجة التزاوج بين العرب الأندلسيين والامازيغ والأتراك والأسبان وربما اليهود .وقد سيطر هؤلاء القراعلة على دفة الحكم في مدينة تلمسان منذ عام 1555م وتحوّلت عندها هذه المدينة إلى معسكر للجند وكثرت فيها الحروب والفتن و فر سكانها منها وانخفض عددهم فيها إلى اقل من خمسة آلاف نسمة ، وتراجع دورها الإسلامي والتنويري والحضاري والثقافي والاقتصادي ولعدة قرون .
وفي عام 1842م احتلت القوات الفرنسية مدينة تلمسان وقام العرب والمسلمون من سكانها بمواجهة هذا الاحتلال الفرنسي .وتحصن بها الأمير عبد القادر الجزائري وجعل من إحدى قلاع تلمسان وهي قلعة المشور حصناً له في مقاومة الاستعمار الفرنسي .وفي احد جدران الحي القديم بتلمسان يوجد سهم في هذا الجدار يقال انه للأمير عبد القادر وقد أطلقه على احد الجنود الفرنسيين فلم يصبه واستقر في هذا الجدار.
ومنذ احتلال فرنسا لتلمسان عملت السلطة الفرنسية فيها على إنشاء حي أوروبي في قلب مدينة تلمسان العربية والإسلامية .وقامت من اجل ذلك بهدم وتدمير العديد من القصور والمدارس والمباني والقلاع التاريخية والأسواق العتيقة ومن بينها المدرسة التاشفينية التي بناها يوسف بن تاشفين والمدرسة اليعقوبية نسبة إلى السلطان المريني أبو يعقوب والذي سيطر على أجزاء من مدينة تلمسان عام 1299م وبنى ضاحية خارج أسوارها اسماها (المنصورة). كما قام الفرنسيون بهدم سوق القيصرية وبعض الأسواق العتيقة وغيرها من مظاهر العمران الأثرية والتاريخية من اجل إضفاء الطابع الأوروبي عامة والفرنسي خاصة على هذه المدينة الإسلامية .وقد عملت فرنسا خاصة على شق بعض الطرق البرية لربط تلمسان بغيرها من الحواضر المجاورة لها وكذلك بنت السكك الحديدية الرابطة بين تلمسان ومدن المغرب العربي الأخرى ومنها هذا الخط الذي يمر عليه قطار المغرب العربي .وقد سعت فرنسا إلى فتح أبواب الهجرة والعمل في تلمسان إمام الفرنسيين والأوروبيين .بهدف التغيير الديمو غرافي لسكانها المسلمين من عرب وامازيغ ،فزاد عدد سكان تلمسان في الحقبة الاستعمارية من خمسة آلاف نسمة عام 1842م أي عام الاحتلال إلى حوالي 73 ألف نسمة عام 1960م أي قبل استقلال الجزائر بعامين .
واليوم تعاني تلمسان من سلبيات التوسع العمراني فيها على حساب أراضيها الزراعية الخصبة ، وكذلك تعاني من تدهور ملحوظ في صناعاتها التقليدية المعروفة عنها ومنها صناعة الجلود والزرابي (السجاجيد) والمنسوجات وأعمال النحاس والفضة والخشب وغيرها .وكذلك تعاني من هجرة العديد من أبنائها إلى وهران والى الجزائر العاصمة بل والى خارج الجمهورية الجزائرية . وفقدت تلمسان الكثير من أريجها ومن سحرها وعقبها التاريخي والذي جعلها يوماً ما تسمى غرناطة إفريقيا.
وكغيرها من مدن وبلدات وقرى ونجوع ارض الجزائر فقد قدمت مدينة تلمسان أبطالا وزعماء ومناضلين للحركة الوطنية الحديثة ومنهم مصالي الحاج والذي يعتبر الأب الروحي للثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954 ، وهو مؤسس لحزب نجم شمال إفريقيا والذي كان يطالب باستقلال الجزائر عن فرنسا سلمياً ، مما جعله في خلاف مع القادة العسكريين في جبهة التحرير الوطني الجزائرية . وكذلك فان الكاتب والأديب الجزائري المعروف محمد أديب وهو مؤلف رواية (الدار الكبيرة)هو من أبناء مدينة تلمسان ، وهي رواية تتناول جزاءاً من التاريخ الوطني المعاصر للجزائر .
ولا تزال مدينة تلمسان تحظى بنشاط ثقافي وفكري مزدهر يتناسب مع وزنها الحضاري والتاريخي ، وحيث تنظم فيها بعض الفعاليات الثقافية والمهرجانات . وقد حوّلت إحدى الكنائس التي بنيت في العهد الفرنسي في وسط المدينة إلى مركز ثقافي وقاعة للفنون.
ومن المظاهر الطبيعية الجميلة في تلمسان مجموعة من الينابيع والشلالات ومنها شلالات الوريط ومساحات خضراء خارج المدينة تقع على الأودية المجاورة لها ومنها وادي التافنة ووادي أيسر . كما يوجد في تلمسان خط للتلفريك ينقل الركاب عبر عرباته المعلقة بأسلاك في الهواء من مدينة تلمسان إلى هضبة (لا لا ستي) نسبة إلى ولية صالحة لها ضريح في تلك الهضبة.
أما المساجد و الجوامع الأثرية والتاريخية في تلمسان فهي عديدة ومنها المسجد الكبير الذي بني في فترة حكم الموحدين لتلمسان عام 1091م. وكذلك مسجد سيدي بلحسن والمرفق به متحف إسلامي وهو ينسب الى الولي الصالح أبى الحسن بن يخلف التنسي احد مشاهير العلم في تلمسان وقد بنى عام 1296في زمن دولة بني زيان .وكذلك مسجد سيدي بو مدين الذي بني عام 1338م وكذلك مسجد حلوي الذي بنى عام 1353. ومعظم هذه المساجد بجوار متاحف إسلامية.
المكلا -حي السلام
23أبريل 2014م