حين يشتد التخلُّف باسم الدين لا أروع من استحضار الأستاذ عبدالله البردوني في رؤيته لإشكالية الحكم في بدايات التاريخ الإسلامي؛ ذلك أن ولاء البردوني للإنسان وللحب؛ أي لروح الشعب ولطموحاته بالكرامة والقرار والمشاركة الديمقراطية.
ولأن مشاريع التطرُّف السنّي والشيعي هي وباء المنطقة - اليمن خصوصاً - فإن استحضار البردوني في هذا السياق يعني السير في الطريق العقلاني الصحيح، طريق السياسة لا طريق الدماء والأشلاء باسم الدين.
كذلك فإن البردوني بما قاله أدناه - وننقله من كتابه القيم أشتات - استكشاف مكثف لمنابع التطرُّف التي ابتلينا بها واستمرت كجائحة مهجوسة استغلت الدين لممارسة القيم الإقصائية وشيطنة الآخر واستدامة العنف وتنمية العنف المضاد، والإصرار البدائي الرهيب على عدم التعايش كما على زوال الدولة وتخريب المجتمع.
يقول سيدنا البردوني:
«ويمكن أن تكون "القريشيتان" أصدق مثل على الصراع بين قبيل واحد انقسم إلى معسكرين ثم معسكرات حتى ولدت النبوة من "هاشم" استكانت "أمية" موقتاً لتستفيق "ليلة الدار" على ثأر "عثمان" ولم تكن القضية ثأراً في ذلك الحين وإنما ذريعة لوصول "أمية" إلى الحكم, ومن ذلك الحين عُرف ما يسمّى "قميص عثمان" وأصبحت للحكم دعاية موجّهة ودعاية معاكسة, فحين حكم الأمويون كان الهاشميون وأتباعهم يندّدون بجور "آل مروان" لأنهم وصلوا إلى الملك "العضوض"بحيلة السياسة وقوة السيف ونخوة الجاهلية, وكان "آل مروان" يدّعون عراقتهم في العرب وينشرون الدعاة عن حزمهم وكرمهم, وانتهى "بنو أمية" على أيدي "بني العباس"وأتباعهم بعد انقسام قريش إلى "سفيانية" و"علوية" ثم "مروانية" و"حسينية" ثم "زبيرية" و"مختارية" وكل هذه نخرت كيان أميّة حتى سقط علم دمشق, وعندما حكم العباسيون لم يتخلّصوا من عيوب "آل مروان"لأن المهم عندهم هو انتقال الملك لا تغيير أشكاله وأساسياته, بل كان العباسيون أكثر ترفاً وأكثر إفحاشاً في الثراء؛ لأن الحكم ألهاهم عن استماع نقد الآخرين وإن كانوا يلاحظون ظواهره من بادرة إلى أخرى, فقد قامت دولة "بني العباس" على أساس الثأر “لآل علي” كما قامت دولة "بني مروان" على ادعاء الثأر لدم “عثمان” لهذا كان “العلويون” أول المعارضين لبني عمهم “العباس” لأنهم قاموا باسمهم ووصلوا إلى الحكم عن خديعتهم, وكان “آل علي” يقولون في العباسيين من التجريح نفس ما قالوه في “الأمويين” من وصفهم بالطغيان وتضييع مال الشعب في مصالحهم ورغائبهم, لكن لم تكن “للعلويين” شوكة قوية يغلبون بها “بني العباس” المؤزّرين بالفرس الذين ظلّوا يحترقون بالحقد على الفاتح الغلاب, وكان آل مروان ينزعون عن الاعتزاز العربي فيستصغرون من شأن غير العرب بوصفهم “أعاجم” وكان الصوت الآخر، صوت الشعب مكبوتاً عن الارتفاع أيام “الأمويين” و“العباسيين” معاً, فقد استمر الصراع بين “الهاشميين” و“الأمويين” ثم بين “الهاشميين” من “علويين” و“عباسيين” أما الشعب فكان تابعاً للمنتصر، لاعناً للمنهزم دون أن يكون له رأي عام في الحكم؛ لأن المحكوم كانت عليه الطاعة وليس له حق السؤال, إلا أن الشعب كان يعبّر عن توتره في شعر أو نكتة أو أغنية أو غضبة صارخة تنقطع أنفاسها مع رقبة صاحبها كما حُكي؛ خطب “أبوجعفر المنصور” فقال: أيها الناس، لقد كفاكم الله الطاعون الذي اجتاح البلاد ببركتنا: فبرز له رجل من أقصى المسجد وقال: “ليس من عدل الله أن يجمع بين الطاعون والمنصور”..!!».