الإسلام يعتبر الفرد جزءاً لا ينفصم عن كيان الأمة وعضواً موصولاً بجسمها لاينفك عنها..وقد جاء الخطاب الإلهي يقرُّ هذا المبدأ ، فلم يتجه الخطاب لفرد وحده بالأمر والنهي وإنما تناول الجماعة كلها بالتأديب والإرشاد قال تعالى : «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ، وجاهدوا في الله حق جهاده» (الحج : 77، 78).
والمسلم وهو يقف بين يدي ربه في صلاته يتلوسورة الفاتحة والتي يقرأها في كل ركعة يردّد «إياك نعبد وإياك نستعين» بلفظ الجمع سواء كان إماماً أم مؤتماً أم منفرداً ، فهو مرتبط مع الجماعة فلم تجرِ العبادة على لسانه في الدعاء والتضرع كعبد منفصل عن إخوانه ،بل كطرف من مجموع متسق ومرتبط ،ثم يسأل الله الهداية لا لنفسه وحسب بل لنفسه ولغيره «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم».
والصلاة من العبادات التي تختلف أجورها اختلافاً كبيراً حين يؤديها الإنسان وحيداً وحين يؤديها مع الجماعة..إن ركعتي الفجر أو ركعات الظهر لم تزد شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها منفرداً ،ومع ذلك فقد ضعّف الإسلام أجرها بضعاً وعشرين مرة عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله.
ولكي يمتزج المسلم بالمجتمع الذي يحتاج إليه فقد شرع الله للجماعة الصلوات اليومية ورغّب في حضورها وتكثير الخطأ إليها ،ثم الزم أهل القرية الصغيرة أو الحي الكبير أن يلتقوا كل أسبوع لصلاة الجمعة ،ثم دعا إلى اجتماع أكبر من صلاة العيد جعل مكانها الأرض الفضاء خارج البلد وأمر الرجال والنساء ــ حتى الحيّض ــ بأن يشهدوها ، ثم أذن إلى حشد أضخم وأكبر يضم المسلمين من كل فج عميق من المشرق والمغرب ، ففرض الحج وجعل له مكاناً معلوماً وزماناً معلوماً ، حتى يجعل اللقاء بين أجناس المسلمين أمراً محتوماً..والرسول صلى الله عليه وسلم شدّد في التحذير من عواقب الانعزال والفرقة في حلّه وترحاله يوصي بالتجمع والاتحاد والوحدة ورعى في سفره أن القافلة عندما تستريح يتفرق أهلها هنا وهناك كأنما ليس بينهم رباط ،فكره هذا المنظر ونفرمنه.
«عن أبي ثعلبة ..كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية فقال النبي صلى الله عليه سلم : «إن تفرّقكم هذا من الشيطان ، فلم ينزلوا بعد إلا انضم بعضهم إلى بعض ، حتى يقال : لو بُسط عليهم ثوبه لعمهم» وذلك من امتزاج المشاعر وتبادل الحب وانسجام الصفوف.
ولو أمعنت النظر في كثير من الانقسامات لرأيت حب الدنيا ، وحب الرئاسة والتسلط ،وحب الظهور تكمن وراء هذه الحزازات.
والوحدة قوة ، وليس ذلك في شؤون الناس فقط ،إنما هو قانون من قوانين الكون ، فالخيط الواهي اذا انضم إليه مثله أصبح حبلاً متيناً يجر الأثقال وهذا العالم الكبيرما هو إلا جملة ذرات متحدة!.. وقد شرح حكيم لأولاده هذا المعنى عند وفاته ليلقنهم درساً في الوحدة قدم إليهم حزمة من العصي وقد اجتمعت عيدانها ، فعجزوا عن كسرها فلما انفك الرباط وتفرقت الأعواد كُسرت واحداً واحداً.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً
وإذا افترقن تكسّرت آحادا
إن الشتات يُضعف الأمم القوية ويُميت الأمم الضعيفة،ولذلك جعل الله أول عظه للمسلمين ــ بعدما انتصروا في معركة «بدر» - أن يوحّدوا صفوفهم ،ويجمعوا أمرهم.
قال الله تعالى : «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» الأنفال ،46
ثم تلقى المسلمون في «اُحد» لطمة موجعة أفقدتهم من رجالهم سبعين بطلاً وردتهم إلى المدينة وهم يعانون الأمرّين من خزي الهزيمة وشماتة الكافرين.
ولماذا حدث ذلك ؟ مع أن إيمانهم بالله ودفاعهم عن الحق يرشحهم للفوز المبين؟ ذلك لأنهم تنازعوا وانقسموا وعصوا أمر الله ورسوله.
قال تعالى : «ولقد صدقكم الله وعده ،إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم» آل عمران 152 .
ولو عقل المسلمون أحوالهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخهم ، لأحسوا بأن ما لحقهم من عار يعود إلى تفرق وحدتهم وانقسام كيانهم .
إن الهجوم الصليبي المعاصر ،والهجوم الصهيوني لم ينجحا في إضعاف المسلمين والسيطرة عليهم ونهب خيراتهم إلا عقب مامهد لذلك بتقسيم المسلمين شيعاً منحلة واهية ،ودويلات متدابرة ، يثور بينها النزاع وتتسع شقته لغير سبب ،وسياسة الغرب في احتلال الشرق وتسخيره تقوم على قاعدة «فرّق تسد».
إن الإسلام حريص على سلامة الأمة وحفظ كيانها وهو لذلك يطفئ بقوة بوادر الخلاف ،ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشتات والفرقة ..قال صلى الله عليه وسلم : «يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار».
إن جرثومة الشقاق والفرقة لا تولد حتى يولد معها كل ما يهدد عاقبة الأمة بالانهيار ،وفي الناس طبائع سيئة قد تموت في ظل الوحدة الكاملة فإذا نجحت بوادر الفرقة ،رأيت المتربصين والمنتهزين يلتفون حول أول ثائر،ظاهرأمرهم التجمع حول مبدأ وباطنه دون ذلك.
قال صلّى الله عليه وسلم : «من خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ،ولا يفي بعهد ذي عهد ، فليس مني ولست منه» رواه مسلم.
إن إئتلاف القلوب والمشاعر ووحدة الغايات والمناهج ، من أوضح تعاليم الإسلام ،ومن أبرز صفات المسلمين المخلصين ..ولاريب أن وحدة الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة ،ودوام دولتها ،ونجاح رسالتها ، ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام ،فإن وحدة الكلمة سر البقاء فيه ولا بقاء عليه ، والضمان الأول للقاء الله بوجه مُشرق.