قلنا في الجزء الأول من هذا الحديث إن ما تشهده اليمن اليوم من أزمة لم يكن الا بسبب فشل الثورة الشبابية السلمية وابتعاد مؤتمر الحوار الوطني عن ملامسة الجذور الحقيقية لأزمات اليمن المتناسلة منذ عقود وربما قرون.
إن الثورة الشبابية السلمية وقبلها ثورة الحراك السلمي الجنوبي لم تأتيا من فراغ، ولم تكونا تنازعا على مصالح بين أشخاص او مراكز قوى بل مثلا ثورة حقيقية ضد الظلم والفساد والاستبداد والقمع ورداءة الخدمات وانتشار الأوبئة والأمراض الجسدية والبيئية والأخلاقية الفتاكة، وقبل هذا وبعده ثورة ضد مصادرة المعاني العظيمة لنضالات للشعب اليمني، بدءا بالثورة والجمهورية وانتهاء بالوحدة والديمقراطية وما يفترض أن تعبر عنه تلك المعاني من قيم الحق والعدل والمواطنة والحرية والعيش الكريم، والاكتفاء بتحويل تلك المعاني إلى شعارات ترفع في المناسبات وتكرر في الخطابات والمهرجانات دون أن يلمس لها المواطن البسيط حضورا على الأرض أو انعكاسا على حياته.
لقد تحولت الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية إلى خرق بالية مستهلكة ومفرغة من أي معنى أو مضمون فبينما كان الشعب يكتوي بنيران الغلاء والفقر والبطالة وتفتك به الأوبئة في الداخل ويعاني أبناؤه المهانة في مهجرهم بسبب يمنيتهم، كانت الطبقة الحاكمة تتجه نحو التفوق على نظيراتها في أكثر البلدان ثراء من حيث امتلاك الأرصدة المالية والشركات والعقارات والبنوك والقصور الفخمة ، . . . . وكانت تلك الطبقة تعيش الثراء الفاحش وتحيى حياة الأباطرة والملوك من ناحية وتتسول الخارج باسم الشعب الفقير الذي لم ينل مما تتسوله إلا المهانة والازدراء أمام شعوب العالم من ناحية أخرى، وبينما كان الحكام يرفعون شعار "الوحدة المعمدة بالدم" كانوا يمارسون أبشع أنواع الانفصال والشطرية تجاه الجنوب والجنوبيين من خلال سياسات السلب والنهب والإقصاء والتهميش والاجتثاث ومن خلال تعميد (وحدتهم هم) بدماء وأرواح أبناء الجنوب، وحينما كانوا يكثرون الحديث عن الجمهورية كانوا يعدون العدة لـ"خلع العداد" وتوريث الجمهورية للأبناء والأحفاد من بعدهم.
لقد قامت الثورة اليمنية في الجنوب والشمال، ضد هذا الوضع المعوج واستهدفت إصلاح الاعوجاج، بإعادة الأمور إلى نصابها والقضاء على الظلم والظالمين والنهب والناهبين والفساد والفاسدين والاستبداد والمستبدين، وراهن الناس على دخول اليمن عهدا جديدا يصير فيه كل المواطنين سادة أنفسهم ويصير فيه الحاكم خادما للشعب كما كان الشهيدان سالمين والحمدي لا سيدا عليه كما فعل حكام العقود الأخيرة، فهل تحقق شيئا مما جاءت الثورة من أجله؟
لقد انقسم الظالمون بين خصوم للثورة وأنصار لها، وتوزع الفاسدون بين معسكر الثورة ومعسكر أعدائها، وتفرق الطغاة بين طغاة مجرّمين قامت الثورة ضدهم، وطغاة مكرّمين (ثوريين) التجأوا إلى الثورة ليحتموا بها من محكمة التاريخ، وتقابل الناهبون بين ناهبين ينبغي اسقاطهم وناهبين ثوار يجب عدم الاقتراب منهم أو حتى ذكر اسماؤهم بسوء.
في عام الثورة تداول بعض الشباب طرفه تقول ان علي عبد الله صالح ضحك ساخرا من شعار " الشعب يريد إسقاط النظام" ورد قائلا هؤلاء مجانين فهم لا يعلمون أنه ليس لدينا نظام حتى يسقطونه.
لقد تغير رأس النظام ولم يتغير النظام وتراجع الرجل الأول المتهم بالظلم والفساد والاستبداد والطغيان لكن سياسات الظلم والفساد والاستبداد والطغيان لم تتراجع إن لم تكن قد استفحلت أكثر.
إن جذر الأزمة اليمنية اليوم يكمن في بقاء السياسات والممارسات والأساليب التي جاءت الثورة ضدها كما كانت قبل الثورة بل واستفحالها أكثر من ذي قبل بفعل تنازع أطراف الحكم في العمل على إفشال كل منهما الآخر في أكذوبة اسمها "الوفاق الوطني"، وما الجرعة السعرية التي ثار الناس مؤخرا ضدها تحت قيادة الحركة الحوثية، ما هي الا مظهر جزئي من مظاهر بقاء كل مقومات النظام السابق على حالها.
لقد عجزت السلطة عن محاربة الفاسدين واستعادة الاموال والثروات المنهوبة لرفد خزينة الدولة لتغطية النفقات الضرورية في الموازنة العامة، بما تحتاجه من الموارد لذلك لجأت إلى تكبيد الشعب أعباء عجزها عن تحصيل الموارد الوطنية واستعادتها من ناهبيها.
سيتفق الحوثيون والسلطة وسينال الحوثيون حصتهم من الحكومة، وإن بوزراء ليس بالضرورة أن يكونوا حوثيين، كما سيحصلون على نصيبهم من الهيئات المرتبطة بمخرجات الحوار الوطني وربما حققوا توسعا افي إقليم أزال ليشمل الجوف وحجة وما بعدهما وقد يسمح لهم بفتح جامعة مقابل جامعة الإيمان، ومدارس لتدريس المذهب الزيدي مقابل مدارس تحفيظ القرآن والمراكز السلفية، وابتعاث من أرادوا إلى قم والنجف للدراسة، وقد تتراجع الاعتصامات أو تختفي، لكن كل هذا لن ينهي الأزمة ولن يعني أن الثورة انتصرت.
إن انتهاء الأزمة مرتبط بتحقيق الأهداف التي أتت من أجلها الثورة اليمنية السلمية في الشمال والجنوب كما إن انتصار الثورة اليمنية في الشمال والجنوب يتوقف على القضاء على أسباب الفساد والظلم والنهب والاستبداد والإقصاء وسد منافذ الجريمة وإعادة الجنوب إلى مكانته الحقيقية التاريخية في المعادلة السياسية اليمنية، بما لا يقل عن منح الجنوب حق الشراكة كإقليم واحد تماما كما دخل يوم 22 مايو، في الدولة الاتحادية وتعويض الجنوبيين عن مظلومية عقدين كاملين من النهب والسلب والإقصاء والاستبعاد وتزوير التاريخ ومسخ الهوية والثقافة الجنوبيتين، وبالتأكيد لا بد من معالجة قضية صعدة بما يضمد جراح الحروب الست ورد الاعتبار لضحايا هذه الحروب، في إطار مصالحة وطنية وعدالة انتقالية تقضيان وإلى الأبد على الجريمة السياسية وتوقفان وإلى الأبد طاحونة الحروب السياسية التي دمرت الأرض والثروة والإنسان معا
وقبل هذا وبعده لا بد من استبعاد كل من تسببوا بمعاناة اليمنيين كل هذه الويلات والأزمات والحروب والخسائر السياسية والاقتصادية والأخلاقية والمعنوية، ابتعادهم عن مسرح السياسة وترك المدنيين من القوى الحديثة ليديروا البلد وتحرير المناصب الرئيسية في السلطة من استمرارها غنيمة بأيدي اللصوص والعاجزين ومنعدمي الضمير، وجعل الوظيفة الحكومية صنوا للوطنية والفدائية والنزاهة والإخلاص، والكف عن تكرار حكاية الـ"ديمة خلفنا بابها"
برقيات:
* التخوف من اندلاع حرب في صنعاء له ما يبرره في ظل تشابك العوامل التي قد تفجر هذه الحرب، لكن اندلاع الحرب لن يكون لعبة مسلية بل إنه قد يؤدي إلى دمار كل شيء ولن يكون فيه من منتصر بل سيخرج الجميع مهزوما، وهو ما ينبغي أن يدركه المتلهفون لسماع دوي المدافع ولعلعة النيران.
* أصدق مشاعر الحزن والأسى والتعازي الحارة إلى الأخ الفنان محمد محسن عطروش وإخوانه بوفاة خالهم الشاعر الغنائي عمر عبد الله نسير بعد حياة حافله بالعطاء والإبداع الفني، كما هي لكل أولاد وأحفاد الفقيد ومحبيه وللحركة الثقافية في أبين وفي عموم البلد، ونسأل الله أن يتغمد الشاعر العظيم بواسع رحمته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
من أقوال الشاعر الفقيد عمر عبد الله نسير:
طبع الزمن هكذا يخلق ممن الأحباب في لحظة شواني
هو حبني هو بدا قدام عيني اليوم تضحك يا زماني
أنا ذقت الهوى والنوى وان خطت الأقدار حاجة في جبيني
كل الذي ينكتب لازم تشوفه عيوني