قدم العام 1971م حدثا مأساويا لأوغندا، انه العام الذي حمل عيدي أمين دادا إلى السلطة، ليبدأ حينها ذلك البلد الأفريقي في الانحدار نحو الهاوية، وهو ذات المصير الذي وصلت اليه الصومال بفعل المغامرات الطائشة لمحمد سياد بري.. وتماثلت النتيجة في قيرغيزستان البلد الأسيوي، وان تغايرت المسببات، فقد أضحى بعد سنوات قلائل من استقلاله عن الاتحاد السوفيتي دولة منهارة فاشلة.. فيما يوشك اليمن أن يكون كذلك، إن لم يتدارك عقلائه وصوله إلى نقطة الانهيار.
كان للسياسات الاستبدادية للرئيس الأوغندي عيدي أمين إسهامها الفاعل في انهيار الاقتصاد الأوغندي، عندما أطلق العنان لضباط جيشه للاستيلاء على القطاعين العام والخاص معا، لتفرغ الخزينة المركزية من النقود بعد سبع سنوات فقط من استيلائه على السلطة، حينها لجا الديكتاتور المستبد لحيلة سياسية عادة ما يستخدماها الطغاة للهروب من الاستحقاقات الداخلية، فكان اللجوء للحرب.. هاجم ( أمين ) تنزانيا إلا أن جيشه تلقى هزيمة ماحقة أصابت نظام حكمه بالانهيار.. وليغادر الحكم بخزينة عامة شبه خاوية وبمديونية تتجاوز الـ 250 مليون دولار، وبأكثر من نصف مليون مواطن تحتضنهم المقابر الجماعية والمصيبة الأكبر حدثت تاليا عندما بدأ المواطنون بنهب أسلحة الجيش المنهار.. تلك الأسلحة التي أشعلت حربا أهلية طاحنة لا تهدأ إلا لكي يتم استئنافها بضراوة أشد .
في دولة افريقية أخرى، بدأت تباشير انحلال الصومال منذ تربع ضابط عسكري آخر هو محمد سياد بري على العرش العام 1969 بانقلاب عسكري يساري، رافعا لواء (الاشتراكية العلمية).. ومع أن دولة جارة كأثيوبيا كانت أيضا تحت وطأة النظام الاشتراكي الماركسي، إلا أن ذلك لم يمنع سياد بري من مهاجمتها لاستعادة إقليم اوغادين بدعاوى أن سكانه صوماليين.. في مؤشر على أن وعي الديكتاتور بالاشتراكية (العالمية) لا يتعدى حدود الصومال الكبرى.. ورغم انتهاء حرب اوغادين بعد عام من اندلاعها الا ان الصراع بين الدولتين ظل مستمرا ولم يتعاف الصومال من هزيمته المنكرة ليصيب الإنهاك الاقتصاد وليتزايد سخط الشعب، حتى كان الانهيار الصومالي في يناير 1991م ليشهد بلدا أفريقيا آخر صراعا قاتلا ما انفك يلقي بظلاله المأسوية لا على الصومال بل على جيرانه والعالم أجمع.
كانت قرغيزستان دولة حديثة النشأة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991م ولأنها كذلك احتاجت لمعونات صندوق النقد الدولي الذي اشترط عليها انفتاحا على اقتصاد السوق، ما جعل البلد في مرمى سيل من المنتجات العالمية، نافست تلك المنتجة من المصانع المحلية التي أغلقت أبوابها لتقذف بمئات الآلاف من العمال إلى الشوارع.. ولأن الانهيار كالتنمية، عملية تراكمية تحدث تدريجيا.. أسفرت التراكمات السلبية وتوسع رقعة الفقر والبطالة إلى اندلاع ثورة (التوليب) العام 2005، وكانت زيادة تعرفة الكهرباء الشرارة التي ألهبت الثورة ضد حكم الرئيس القرغيزي عسكر أكاييف .. ومع أن الزيادة كانت مبررة نظرا لكون البلد يعتمد في توليد الكهرباء على السدود المائية التي شهدت انخفاضا حادا في مناسيبها لقلة الأمطار، إلا أن المعارضة التي نجحت في استثمار هكذا حالة للتأليب على نظام الحكم ، لم تفلح بالمقابل في معالجة الأوضاع الاقتصادية وظل ارتفاع تعرفة استهلاك الكهرباء في بلد يعتمد عليها قطاعي الزراعة والصناعة كليا، ما أنتج جمودا اقتصادا حمل معها البلد إلى نقطة الانهيار، التي تلاشت بعدها الدولة والنظام، وأخذت المليشيات المسلحة بالسلب والنهب .. وأيضا حلت لعنة الحرب الأهلية العرقية بين القرغيز والاوزبك..
التمثيل صنو الحقيقة، خاصة عند مقاربة حالات تلك الدول الثلاث بما هو حاصل في اليمن، التي تزداد مؤشرات وصوله إلى نقطة الانهيار.. فإن كانت مجلة فورين بوليسي حددث 13 معيارا للدولة الفاشلة فإن اغلبها ـ للأسف ـ تنطبق تماما مع ما يحدث في اليمن من تدهور للخدمات العامة والانقسام بين نخب الدولة والاستقلال النسبي لقوى الأمن، وظهور مليشيات مسلحة تسلب الدولة مهامها.. والأهم: شخصنة السلطة، المتجسدة في كون وسائل الضبط من جيش وأمن تدين بولائها لأشخاص عوضا عن الدولة.. وبينما تقر القراءة الموضوعية إلى أن هكذا اختلالات هي نتاج تراكمي لسنوات عدة، إلا أنها أفرزت وضعا مأساويا، يضاعف المسؤولية أمام كافة القوى السياسية والاجتماعية للخروج منه وتغليب مصلحة الوطن على ما سواها، لتغدو المهمة الأكثر إلحاحا، إعادة الاعتبار للدولة ودعم حكومتها ومؤسساتها الرسمية وإلا فإن تبعات الانهيار الشامل ستصيب الجميع دونما استثناء..فالانهيار كالتنمية يحدث تدريجيا وبفعل تراكمي، لكنه عندما يحدث يصبح من الصعب استعادة حالة الاستقرار.