لست بصدد المقارنة بين الرئيسين الشهيد سالم ربيع (المشهور باسمه الحركي سالمين) والذي ذاع صيته عبر كل التاريخ الجنوبي وما يزال، وبين الرئيس عبد ربه منصور الذي دفع به القدر لأن يكون الرئيس الجنوبي الأول (وربما الأخير) للجمهورية اليمنية الذاهبة باتجاه مجموعة من المجاهيل، فالرجلان جاءا في زمنين مختلفتين ومن بيئتين مختلفتين وفي ظرفين تاريخيين مختلفين وفي ظل توازنات قوى محلية وإقليمية ودولية مختلفة، لكنني وددت ان أفترض إجراء مقاربة افتراضية بين ما يتشابه في المرحلتين التاريخيتين.
عندما تسلم الشهيد سالمين، وقبله الرئيس الفقيد قحطان الشعبي كانت كل خبراتهما تتركز في خوض المعارك والتخطيط للعمليات العسكرية الفدائية ضد القوات الانجليزية، وربما الخوض في العمل التحريضي لنصرة الثورة وحشد المواطنين لمؤازرتها، ولم يكن أي من سالمين أو رفاقه قد تولى وظيفة حكومية رسمية بحجم إدارة مدينة أو محافظة، . . كانت خزينة الدولة شبه فاضية وكانت الموارد تنحصر على مقدار مبيعات الثروة السمكية وعائدات الزراعة وبعض الضرائب والجمارك الشحيحة أصلا، وكان مينا عدن قد فقد مكانته الملاحية العالمية قبل الاستقلال بخمسة أشهر، ليس بسبب سياسات التأميم والمزايدات كما يقول المفتريون والمزايدون، ولكن بسبب إغلاق قناة السويس منذ يونيو ١٩٦٧ وهي الشريان الذي يتغذى منه ميناء عدن وهو بدونها لا يساوي شيء يذكر، ولم يكن نظام سالمين ورفاقه يحظى برضا المحيط الإقليمي والكثير من المحيط الدولي بل إن الكثيرين ممن يدعمون اليوم حكومة هادي كانوا على موقف عدائي من النظام الذي ترأسه الشهيد سالمين لأسباب ليس هذا مجال تناولها، فماذا عمل سالمين ورفاقه لتجاوز هذا الوضع الحرج، ووضع مداميك الدولة ذائعة الشهرة التي بنوها!
كان لدى سالمين ورفاقه بضعة مئات من مناضلي الجبهة القومية وأنصارها وبعض المؤيدين من الفلاحين والبدو الرحل وشريحة ضئيلة من الموظفين والعمال لكنهم جميعا كانوا مؤمنين بالنهج السياسي الذي تبناه سالمين ورفاقه، اعترف سالمين بأن خزينة البلد فاضية وإن على الشعب أن يدافع عن وطنه وأن يبني مستقبله لنفسه، حشد سالمين ورفاقه عشرات الآلاف من الشباب الباحثين عن العمل وجندوهم في القوات المسلحة والأمن وصارحوهم بأن رتباتهم ستكون ضئيلة لكنهم سيتأهلون ويحصلون على الضمان الصحي والاجتماعي لهم ولأسرهم، وفتحوا المدارس والأقسام الداخلية لأبناء الفقراء ليتعلموا إجباريا ومجانا حتى إنهاء الثانوية العامة، . . لم يوزع سالمين الرشاوي والهدايا والمناصب الوهمية فالرشوة وكل أشكال الكسب غير المشروع، مهما كان ضئيلا كانت عارا إخلاقيا قد يدفع صاحبه إلى الانتحار فيما لو كشف، بل لقد جند كل الشعب ليلتف حول سياساته ورفاقه، وعندما ضاقت أحوال البلد وشحت الموارد وتضاعفت مكائد الأشقاء أعلن سالمين سياسة التقشف وأصدر قانون تخفيض الرواتب، والذي يعتبره المزايدون اليوم ضربا من الجنون،. . لقد خفض الرئيس راتبه وكل رفاقه القادة إلى ٥٠٪ وسرى التخفيض بالتناسب الطردي مع الدخل الشهري بحيث لم يخسر صاحب العشرين دينارا ( وهي المعدل المتوسط للماهيات الشهرية للموظفين ) سوى نصف دينار وعلى الأكثر دينارا واحدا، وهكذا حمى البلد من الانهيار وحول الشعب إلى شريك في معركة المستقبل.
لم تكن المرحلة خالية من الأخطاء والهفوات، التي يدينها اليوم المزايدون ويرتكبون عشرات أمثالها بوعي وتدبير مسبق وبنوايا مقصودة ، بل إن أخطاء سالمين ورفاقه كانت منبعثة من النقاء الثوري وحسن النية والمقاصد النبيلة، وهم في الأخير بشر مثل سائر البشر ليسوا بلا عيوب ولا هم مطهرون من الزلل، لكن يكفي أن نعلم أن سالمين وجميع رفاقه ممن تولوا الحكم حتى عام ١٩٩٠م كانوا يسكنون في منازل لا يملكونها، وماتوا ولم يكن أي منهم يمتلك أي رصيد في أي بنك ولا أسهم في أي شركة ولا عقار ولا حتى سيارة ، لقد ضربوا مثلا للقادة الشعبيين الذين يخدمون الشعب ولا يستخدمونه ويحمون الوطن ولا يحتمون به، ويضحون ويتعبون من أجل راحة غيرهم من عامة الشعب أكثر مما يرتاحون على حساب معاناة الشعب.
إنني لا أدعو إلى تكرار سياسات تلك المرحلة فالزمن غير الزمن والبشر غير البشر والظروف تختلف عنوتلك الظروف، لكنني أشفق على حال المواطنين هذه الأيام عندما يعلمون أن الرئيس هادي يحظى برضا ودعم ومؤازرة الجيران وكل المجتمع الدولي، وموارد الميزانية العامة تبلغ آلاف المليارات (من غير الدعم من الأشقاء والأصدقاء) ولدى البلد مئات الآلاف من الضباط والقادة والجنود المحسوبين جيشا وطنيا وعشرات الأجهزة الأمنية فضلا عن عشرات الآلاف من المقاومين المتطوعين والمستعدين للعمل بخمس ما يتقاضاه ضابط عتل من أصحاب الكروش المنتفخة والأوداج المتورمة، ومع ذلك لم تستطع كل هذه الموارد وكل هذه الجيوش أن تحمي محافظ العاصمة ولا مقر إقامة نائب رئيس الدولة وحكومته، وأتساءل : ماذا لو كان سالمين هو من حفظه القدر ليكون رئيسا للمرحلة الراهنة كيف سيستخدم هذه الموارد البشرية والمادية والتقنية وهل كنا سنسمع عن سيارات مفخخة تنفجر داخل العاصمة التي كان مجرد حمل السلاح الأبيض فيها معيبا أخلاقيا ومعنويا، دعك من مخالفته للقانون والنظام.
إنها الإرادات المتفاوته والمقاصد المتباينة والنوايا المختلفة والقدرة على التقاط المعطيات واستثمارها بما يخدم التوجه العام للبلد.
رحم الله الشهيد سالمين ورفاقه من الشهداء وحفظ الأحياء منهم وغفر الله لهم زلاتهم وحمى الله الرئيس هادي من مكائد الكائدين ومكر الماكرين ومن مستشاري السوء الذين يتكاثرون وتتكاثر خدعهم ونصائحهم واستشاراتهم التي لا تنتج إلا الكوارث والزلازل.
______________________
* رئيس مركز شمسان للدراسات والإعلام.
** زوروا صفحة مركز شمسان للدراسات والإعلام على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك