التفت نحوي صاحب التاكسي باندهاش فيما كنت مازلت أتحدث بحرقة عن أن مدينته تعز يجب أن تغتسل من كل الكوابيس لتظل حالمة ونظيفة باستمرار.
قبل حوالي أسبوعين، اتخذ مشوارنا في مدينة تعز وجهة غير محددة بالضبط.. تماماً، مثلما يبدأ الحديث في سيارات الأجرة عن قيمة المشوار التي يجب أن لا تزيد عن خمسمائة ريال يمني، ينتهي عادةً، عند قرارات الرئيس الأخيرة، قبل أن ينتقل بكل عفوية، إلى السؤال عن سعر الكيلو الطماطم ومتى يبدأ موسم المانجو.
في المشوار الذي كان على هامش زيارة إلى تعز بدعوة من مؤسسة السعيد الثقافية، مررنا بعدة نقاط أمنية داخل المدينة رفقة سائق تاكس يبدو هادىء الطباع، كثير الصمت، قبل أن يفاجئنا بسؤال واحد وجيه للغاية؛ صار لاحقاً محور ارتكاز لأسئلة كثيرة ظلت تبحث في أذهاننا، عن إجابات.
لم أهتم بتفاصيل صاحب التاكسي حين سألني بلكنته التعزية: تقول بيرجّعوا شوقي؟ لكنه نبرته كانت كافية للاعتقاد الفوري بأن ثمة مخاوف شبه متفاوتة في تعز كما في غيرها، من بقاء أي منصب إداري في حالة من الفراغ.
أعرف أننا نحن اليمنيون شعب شغوف بالسياسة، ويحضر شأنها المتقلب في كل تفاصيلنا اليومية، حتى ونحن لا ندرك منها شيء، نتحدث عنها بإسهاب في أماكننا العامة والخاصة ونخوض نقاشات لا مبتدأ لها ولا نهاية سوى تلك التي تسمى «وجع قلب».. لكن الفضول الصحفي يدفع أحدنا أحياناً، لمحاولة التعرّف إلى رأي الناس العاديين أو تحاول ملامسة شعورهم حيال أي قضية من القضايا اليمنية المشتعلة.. فكيف بالذي يحدث على الأرض في تعز؟!.
طوال الأسابيع الماضية، طافت على السطح في تعز حالة من الغليان الشعبي والغباء السياسي، وحالة أخرى موازية تمثلت في تراكم أكياس القمامة في الشوارع وفي الممرات أيضاً، والسبب يكمن حول ما بات يصفه مراقبون اليوم بـ«لعنة المحاصصة».
تتمحور القضية في تعز حول خلافات المحافظ شوقي هائل وقيادة المشترك حول عدة قضايا أبرزها التعيينات الأخيرة في المكاتب التفيذية للمحافظة.
وعلاوة على الحديث الإعلامي المأزوم، ستجد أمامك مشهد يعكس حقيقة التحول نحو الأسوأ في تعز في ظل قيادات سياسية تخوض جدلاً غير مضبوط مع إيقاع التحول المنشود والمفترض داخل البلاد.
وما إن تلحظ في أحد شوارع مشاهد متكررة لقبائل مسلحة تعتلي سيارات من غير لوحة تجزم حالاً أن ثمة لغز محير للغاية في الحالمة طالما وأنت لم يحدث وأن شاهدت هذه الصور المقززة قبلاً، في محافظة أعلنت عن أنها عاصمة للثقافة اليمنية قبل أسابيع.
لقد بات المتتبع لواقع المحافظة التي اندلعت منها شرارة الثورة ضد نظام صالح، يلحظ أن هناك حرب باردة ظلت مشتعلة بصمت بين قادة المشترك وتحديداً قيادات حزب الأصلاح وبين المحافظ المنتمي لأسرة تجارية معروفة على مستوى اليمن والمنطقة، وبدأت منذ أن عين الرجل لكرسي المحافظة في سياق التوافق الذي مضت عليه إجراءات ما بعد المبادرة الخليجية في اليمن.
لم يكن شوقي هائل على خلاف مع أحد في تعز، وهذه جزئية هامة ربما في طبيعة التربية الفردية داخل تركيبة الأسر التجارية التي لا تحب المغامرة في خوض السياسة وفي خصام أي من الأطراف، وربما هي ذاتها، من دفعت بالرئيس هادي ومستشاريه لاختيار شوقي محافظاً لتعز رغم انتمائه الواضح للمؤتمر الشعبي العام.
في السنتين الأخيرتين، أعادت بعض القوى إنتاج نفسها وفقاً لمتطلبات المرحلة التي تمر بها البلاد. وكان لقوى تعز أن تتخذ من هذا التحول النسبي في الربيع اليمني بداية غير منسقة وربما غير موفقة، نحو مأزق جديد.
حاولت هذه القوى -المدنية منها تحديداً- بعد تعيين شوقي محافظاً لتعز، أن تتمترس خلف طموحاتها في صفين اثنين لم يكن لهما حظو وحضور كاف عندما كان العوبلي وقيران وسرحان ما يزالون يحكمون السيطرة على تعز المنتفضة وبخيوط مشدودة من أياديهم للمركز بصنعاء.
ومعلوم أن تعز هي جزء رئيسي ومكون هام داخل دائرة الدولة اليمنية، ففي كل تطور كان الربيع اليمني يصل إليه، كانت تعز سباقة، وتتموج بعفوية، مع ثمار ثورة شباب التغيير التي بدأت أصلاً من تعز لتعم محافظات البلاد.
ومع بدء تنفيذ بنود المباردة الخليجية ومروراً بإجراءات إعادة هيكلة الجيش وفكفكة نظام صالح العسكري داخل صنعاء وخارجها، حظيت تعز بنتائج كبيرة من هذا القبيل، غير أن بدء عرقلة عمل المحافظ شوقي في تعز بالتزامن مع انطلاق فعاليات الحوار الوطني، واشتعال ضجيج هذه العرقلة التي دفعت بشوقي للخروج من اليمن، يفتح نوافذ كل الأسئلة المحيرة.
ومؤخراً ضجت وسائل الإعلام بأطرافها وأهدافها المختلفة حول جوهر الخلافات في تعز وكيف أن شباب الثورة يبدؤون صباحهم بشكل شبه يومي، من أمام بيت المحافظ بهتافات سمجة من قبيل «يامجموعة بيت هائل/ شلي حقك الجاهل».
ومع تزايد حجج قادة المشترك، وتوالي رسائل إعلام التابع، من أن شوقي لم يقم بإبعاد مسئولين متهمين بقتل الشباب في تعز وتعيين وكلاء ومستشارين معروف عنهم الفساد، ربما تجعل البعض من المراقبين يتساءل فعلاً، عن ما إذا كان قادة المشترك يجهلون أنهم وقعوا حصانة للقتلة الحقيقيين بصنعاء.
وأخذت الخلافات منحىً متطوراً منذ أن تم اعتماد مبدأ الكفاءة في اختيار مدراء المكاتب التنفيذية في تعز، بحيث كان للمشترك مرشح لمكتب التربية رفضه المحافظ، غير أن مراقبين يؤكدون أن هذه واحدة من نقاط الخلاف على التعيينات خصوصاً بعد تعيين مدير جديد لميناء المخا وهو من المنتمين للحزب الاشتراكي فيا لم يرق الأمر لحزب الإصلاح؛ أكبر احزاب اللقاء المشترك وأكثرهم حضوراً وتأثيراً في محافظة تعز بعد فقدان التوهج والحضور في شمال الشمال وفي بعض محافظات الجنوب.
وبعيداً عما إذا كان الأمر مرتبط كما يصوره مراقبون برجالات السياسة والتجارة والقبيلة في صنعاء، فإنه غير مستبعد أن يكون فعلاً لدى البعض نوايا لاتخاذ تعز وشبانها الطموحين وسيلة للاعتراض على إجراءات التحول بشكل عام. وذلك كنوع من الابتزاز السياسي للحصول على المزيد من المنافع والحصص. وهو الأمر ذاته المرتبط، بطموحات الحزب سالف الذكر.
لكن ما يتعين على قادة المشترك وعلى قيادة حزب الإصلاح بالذات، هو أن يعيدوا النظر في الحديث المتداول مؤخراً حول جوهر خلافاتهم مع شوقي المحتجب في إحدى فروع شركة أسرته في الخارج في ظل حديث عن أنه رافض للعودة لليمن الآن، سيما وأن الأمر ترافق وما يزال مع إجراءات فعلية لإعادة هيكلة الجيش وإعادة لحمته بعيداً عن حرس أحمد علي وفرقة علي محسن، ذلك أن مراقبين كثر يجدون في واقع تعز اليوم محاولة ليس إلا من بعض القوى المتضررة من إجراءات هذا التحول الإيجابي في اليمن، بحيث تحاول إعادة إنتاج نفسها من تعز مستفيدةً من حقيقة أن شبان الحالمة لا يمكن إلا أن ينساقوا مع أي حديث عن احتجاج أو ثورة.
وفيما لايزال شوقي محتجباً خارج اليمن، كان حديث سابق لرئيس الجمهورية تمحور حول أنه متمسك ببقاء شوقي في منصبه كمحافظ لتعز. وطبقاً لمعلومات فقد قال هادي أن فشل شوقي في تعز يعني فشل للوفاق وفشل لقيادته لليمن بشكل عام. لكن في السياق، يواصل قادة حزب الإصلاح التأكيد أن مشكلتهم ليست مع بيت هائل وليست مع شوقي وإنما مع من حوله من بقايا النظام. في الوقت الذي يؤكد مقربون من شوقي أن قيادات حزب الإصلاح تبحث عن موطىء قدم جديد في تعز بعد الشعور باضمحلال نسبي لحضورها في مناطق يمنية عديدة. والأمر يربطه مراقبون أيضاً، بالاستعدادات الحزبية الجادة للانتخابات المقبلة عام 2014.
ببساطة، وإن بدا أن هناك يأسا عارما في تعز من وصول محافظتهم إلى هذا المئال، فإن في تعز لا يمكن أن تختفي ملامح وبوادر المدينة الحية التي لا تنام داخلها روح النشاط والمثابرة والتجدد والحب والحياة. وباختصار وتفاؤل شديد، فإن الخلافات التي ماتزال طافية على السطح بمحافظة تعز في طريقها لأن تتوقف، لأن قدر المدينة الحالمة دوماً، يأتي مخيباً لآمال الفوضى، ومضاداً لطموحات الخراب.