لأن هؤلاء هم امتداد لأولئك، ولأن الوقائع في هذا البلد تبدو وكأنها هي ذاتها؛ وقائع الأمس ووقائع اليوم، مع اختلاف في قليل؛ فإن التاريخ يكاد أن يعيد تفاصيل ذاته بقوة، ويضعنا أمام نسخة مكرورة نجترها بكل أخطائها وبكل نتائجها الخطرة المحسوسة أو المبشرة بالخطر، تلك النسخة هي واقع ما بعد ثورة الشباب الربيعية عام 2011م، لأصل ما بعد ثورة سبتمبر عام 1962م.
في كلا الثوريين، سقط أقوى رموز النظامين، لكنه لم يسقط النظام ذاته، كما أنه لم يأتِ أغلب الثوار من خارج النظامين، بل جاؤوا من جزء أصيل فيه، وبدا الأمر كانفلاق حبة ذرة إلى نصفين، كل نصف بدأ طورا جديدا، حياة أو موتا، لكنهما في سباق على طور الحياة، والذي سيظفر بسبق استعادة التشكل والإيناع والإثمار هو من سيكون محل التفاف المندهشين من حوله، أما من يقنع بالماضي وقدره أو منجزه فإنه ستتداعى عليه السوس والنمل وعوامل التجوية المهلكة.
بعد ثورة سبتمبر 1962م، امتدت الحرب بين الجمهوريين والملكيين لثمان سنوات، وكاد النظام الملكي أن يعود بالقوة المسلحة إلى حكم البلاد، مستغلا عوامل الضعف المتراكمة في الصف الجمهوري وعوامل الخارج التي كان أبرزها نكسة عام 1967م، فعاد دور الاندفاعيين من الثوار للنشاط مرة أخرى، وبدا ذلك الدور أقوى ما يكون في حرب السبعين يوما؛ لأن مواقف الإقدام في ذلك الظرف كانت أدعى وأجدى من مواقف التعقل، فكان النصر حليف أولئك، في حين كان التعقل مطلوبا في سنوات ما بعد انتهاء الحرب أو قبل ذلك بقليل، الأمر الذي قاد البلاد إلى الصلح ووقف مناوشات الحرب بعد إبريل عام 1970م بين الوجوه المتناقضة؛ الجمهورية والملكية، بالرغم من عدم رضى الاندفاعيين بما خرج به ذلك الصلح الذي رعته الجارة السعودية.
ربما يقودنا ذلك المشهد إلى مشهد اليوم، لتبدو الصورة هي هي، فبعد أن اندفع الثوار- أيا كان مصدرهم- للإطاحة بنظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لم يتحقق لهم هدف إسقاطه كما فعل ثوار سبتمبر بحكم آل حميد الدين، بل استطال الصراع -وما يزال- وذلك على نحو أقرب إلى ما كان في سنوات ثورة سبتمبر، غير أن صالح لم يفقد السلطة كلها دفعة واحدة، وإن كان قد أيقن أن كرسي السلطة بدأ بالاضطراب تحته، فكان 23 نوفمبر عام 2011م في الرياض صورة انعكاسية لـ28 مارس عام 1970م في جدة، وأثرٌ واضحٌ لسياسة المتعقلين الذين تركوا أصوات الاندفاعيين تصطخب في الساحات فيما هم في أروقة السياسة يديرون فن الممكن.
إن الفرق الجوهري بين التاريخين، أن اليمن -آنذاك- كانت على جبهتين لا ثالثة لهما، فيما اليوم تبدو على أكثر من ذلك، لا سيما مع امتداد رقعتها الجغرافية في الجنوب والشرق، وتعالى الأصوات الرافضة لأي وفاق سياسي يضم ديموجرافية تلك الرقعة، يضاف إلى ذلك أن الرئيس السابق ما يزال يدير اللعبة بجدارة على أخطاء المرحلة التي عقبته، ويذكّر كل من يصله صوته وصورته بأن الأمر لم يكن ثورة، بل صراع مصالح، وأن الذين تركوه ليسوا إلا خبث ذلك الكير الذي صقله ونقاه من شوائبهم!!
وهنا، فإن الاندفاعيين والمتعقلين من طرفي الاحتدام لم ولن يستطيعا الوصول إلى نهاية المضمار؛ لأن تاريخ هذا البلد مليء بتجارب الصراع على السلطة، التي تقضي سننها بالعاقب والمرحلية القصيرة؛ ولذلك علينا أن نتوقع معتركا آخر بين الاندفاعيين من هذا الطرف وذاك، وعلينا أن نتوقع ونترقب طرفا ثالثا يثب إلى الواجهة على اشتهاء الضرورة الشعبية، كما قد يكون ذلك الطرف كيانا يمازج بين أفكار الاندفاعيين والمتعقلين .. فمتى يكون ذلك؟
وللتذكر، فلقد كانت السنوات الثلاث التي أمضاها الرئيس إبراهيم الحمدي في الحكم بعد حركة 13 يونيو عام 1974م، التي أزاحت أبرز المتعقلين وهو الرئيس عبدالرحمن الإرياني ومن معه، هي الفترة التي مازجت بين التعقل والاندفاع، لكن ثقافة الاندفاع لدى بعض أعضاء الفريق الذي كان إلى جوار الرئيس الحمدي، جعل تلك المرحلة محل رصد الخصوم من الداخل والخارج، فلم تراعِ حياتها مثلما كانت تلك القوى تتربص بها، وقد كانت النهاية مأساوية، وعلى أيدي أفراد من ذلك الفريق؛ وعليه، هل سيكون لهذه المرحلة صورة انعكاسية مماثلة في قادم الأيام القريبة في هذا البلد؟