نحن أمة مستهدفة وسنظل كذلك، ومن غير المنطقي أن نذهب بعيدا عن هذا التصور أو أن نتجاهله في أي ظرف، مهما بلغت متانة عرى الصداقة مع الغرب أو تداخلت مصالحهم معنا، ومهما بلغت القوة التي قد نملكها أو يسمح لنا بامتلاكها، ولذا فإنه يجب أن يكون هنالك حشد عربي متنوع ومتعدد لكل أشكال القوة بما يقلل من حدة هذا القلق، وبما يكفل الندية في أي مواجهة قادمة مع أي طرف معادي.
من هذا المنطلق، أردت أن أذكّر وأتذكر معكم واقعة حربية غادرة طالت بلدا عربيا هو مصر، قبل أكثر من نصف قرن، حيث أنه ابتداء من يوم التاسع والعشرين من أكتوبر والأسبوع التالي له من عام 1956م، شنت كل من: إسرائيل، وبريطانيا، وفرنسا، عدوانا غاشما على مصر، في مؤامرة تاريخية فاشلة انكشفت أهدافها الحقيقية منذ الوهلة الأولى، فيما كان ظاهر تلك الأهداف تأديب مصر بسبب دعمها قوى التحرر الوطني في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وكذا السعي لإلغاء قرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية الذي اعتبرها شركة مساهمة مصرية، وهو القرار الذي اتخذه عبدالناصر قبل ثلاثة أشهر من هذا العدوان في الذكرى الرابعة لثورة 23 يوليو عام 1952م.
كما مثّل إغلاق مضيق تيران وقناة السويس أمام السفن الإسرائيلية، وكذا العقد المبرم بين مصر وتشيكوسلوفاكيا بشأن بيع بعض أنواع الأسلحة لمصر دافعا قويا للطرف الإسرائيلي للمشاركة في هذا العدوان مع أنه كان يعي بأنه ما يزال كيانا غضا لم يتجاوز العقد الأول من عمره، ويعلم أنه متربص به من قبل جميع المحيطين به من العرب الذين يعتبرونه دخيلا وغاصبا لأرض فلسطين، لكن يبدو أنه قد أغرته حالة هؤلاء العرب وما يمرون به من أزمات سياسية واقتصادية، فضلا عن انتكاستهم العسكرية أمامه في حرب عام 1948م، وتراجعهم أمام العمليات العسكرية المتقطعة الأخرى التي تلت ذلك والتي كان ينفذها ضدهم من حين لآخر، خصوصا مصر، التي كانت كثيرا ما تتعرض لغارات إسرائيلية على مواقعها في غزة وسيناء، وما رافق ذلك من نشاط استخباري داخل الأراضي المصرية الذي كان أشهره محاولة استهداف وكالة الإعلام الأميركية في القاهرة عام 1954م، وقد عرفت تلك الواقعة المكشوفة بـ "قضية لافون" أو بـ"العمل المشين".
الحقيقة أن إسرائيل في ذلك العدوان، وعلى شدة عدائها لمصر الناصرية بعد أن ضيقت عليها الخناق في البحر الأحمر وخليجي العقبة والسويس، كانت في موقع المخدوع حين دفُع بها في هذا المعترك الذي يسميه كُتاب وساسة غربيون وإسرائيليون "مغامرة السويس" لأنها اعتمدت على حليفتيها للتعويض عن النقص العسكري الحاصل لديها في سبيل تحقيق أهدافها الآنية والمستقبلية من هذا العدوان في المناطق التي تحاصر نشاطها فيها مصر وكذلك في سيناء وصولا إلى قناة السويس، وقد تأكد للإسرائيليين في هذه المغامرة أهمية الاعتماد على الذات كما يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي (جورج باندي1961-1966م) إذ "علمتهم مغامرة السويس 1956م إلى أيّ مدى يجب عدم الاعتماد على أصدقاء مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة".
كانت القوات الإسرائيلية هي البادئة بالعدوان حينما توغلت برا في سيناء باتجاه الضفة الشرقية لقناة السويس، ولم يكن ذلك إلا خطوة من خطوات المؤامرة، حيث أنذرت كل من بريطانيا وفرنسا الحكومة الإسرائيلية والحكومة المصرية بوجوب وقف الحرب وانسحاب قواتهما إلى مسافة عشرة أميال على جانبي القناة، وحلول قوات عسكرية بريطانية وفرنسية على طول امتدادها، ففهم المصريون أن الأمر مجرد خدعة ترمي لاحتلال القناة من قبل الدول الثلاث، وهو في حد ذاته عودة لاحتلال مصر؛ فكان أن رفضت مصر ذلك الإنذار بشدة، وكثفت من نشاطها العسكري بعد إعادة ترتيب وتموضع قواتها المنسحبة من سيناء، وقد رافق ذلك تحرك وحدات عسكرية نوعية من مختلف صنوف القوات المسلحة للدول الثلاث واحتلت مدن بور سعيد والإسماعلية والسويس تحت ضربات عسكرية جوية وبحرية وبرية لا تشبهها إلا وقائع الحروب الكبرى.
مع بلوغ العدوان يومه العاشر، كان الموقف السوفييتي صريحا باستخدام القوة إن لم تنسحب القوات المهاجمة من المناطق التي احتلتها، وأبدت الولايات المتحدة موقفا إيجابيا تجاه مصر في محاولة للتقرب والظهور بالوجه الوديع أمام عالم يتابع باهتمام تنامي حضورها في كل الميادين، والتقت الإرادة الدولية في الأمم المتحدة مع تلك المواقف بالتنديد بهذا العدوان ورفع آثاره، ولذلك فقد كانت نتائجه فاشلة بكل المقاييس العسكرية قياسا بما يمكن أن تحققه أي معركة من مكاسب معروفة في ظل تفاوت موازين القوة الحاصلة هنا، إلا أن نفوس الإسرائيليين الأمرات بالسوء اجترّت مواجع ومرارة مغامرة السويس تلك، وأعادت الكرّة منفردة في يونيو عام 1967م، وكانت حينها قد تعلمت الدرس، وهو اعتمادها على ذاتها في مواجهة أمة تعتمد كليا على الآخر، ويتبارى حكامها فيما بينهم للفتك ببعضهم البعض، أو يتآمرون مع غيرهم ثم يخرجون على جماهيرهم بقميص يوسف.
الآن، وبعد تأمل هذه التفاصيل البسيطة والمؤلمة للعدوان، ما هي الدروس التي يجب أن يعيها الحكام ونعيها كشعوب وكأمة في هذا الركب الحضاري الإنساني الذي لا يحترم سوى الأقوياء؟
إن ما يجب التوقف عنده، هو أننا كما كنا قبل نصف قرن، نُستهدف من أعدائنا في عقر ديارنا، ونستعين بأعدائنا في القضاء على من نختلف معهم من بني جلدتنا، ولو كان الثمن تدمير بلد بكاملة كما جرى في العراق وكما يجري اليوم في دول ما يسمى الربيع العربي، في مصر وليبيا واليمن وتونس، وذلك في مهمة نائبة عن أي حرب قد يقدم عليها مستقبلا الكيان الصهيوني المتربص بنا دولة دولة، وهو يُراكم قواته وقدراته الاقتصادية والتقنية والعسكرية عاما بعد آخر، ويقطع الأشواط تلو الأشواط ليبلغ مراتب الفرادة على هذه الرقعة من الأرض التي تجمعنا به، ونحن كما كنا، ما نزال نقبع في المؤخرة وندعي بحمق وزيف كبيرين أننا نواكبه!!
الحقيقة أن نكسة عام 1967م مثلت اختبارا حقيقيا لعمق الدرس الذي يفترض أن يكون قد استوعبه الإسرائيليون والمصريون، أو لنقل العرب عموما، غير أن مجريات ونتائج الحرب أثبتت أن الإسرائيليين كانوا قد استوعبوا -فعلا- كل دروس الماضي بما فيها دروس مغامرتهم في عدوان السويس أو ما يطلقون عليها في أدبياتهم العسكرية عملية "قادش"، مع أن موقف كل منهما في كلا الواقعتين قبل ساعة الصفر وبعدها هو ذاته ما كان عليه عام 1956م، حيث كانت إسرائيل في موقف المهاجم فيما مصر كانت في موقف المدافع، وغالبا ما يكون المهاجم المتمكن أبلغ كسبا ممن يدخل الحرب من باب الدفاع، مع مراعاة ميزان القوة بينهما.
لولا بعض المكاسب التي خرج بها المصريون دون سواهم من العرب الذين اصطفوا معهم في حرب العبور في أكتوبر عام 1973م، كسورية مثلا، لكنا قلنا إن المصريين ما يزالون يعرضون عن دروس الحرب التي أوجعتهم كثيرا مع إسرائيل، لكن بالمقابل علينا أن نلاحظ أن موقعهم في هذه الحرب كان هجوميا، وكان هذا الهجوم مدفوعا بقوة استرداد الحق المغتصب، وأن أسباب القوة المادية والمعنوية المتعددة التي تنامت لديهم خلال ستة أعوام من النكسة وضعفها من العدوان الثلاثي كانت مؤازرة لبلوغ ذلك الحق، وقد تحقق قول عبدالناصر وإن بعد مماته: "إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
فأين العرب عموما مما وصل إليه الإسرائيليون اليوم؟ لندع حدودهم التي اتسعت منذ قيام كيانهم إلى الآن جنبا آخر، ولنمضِ في المساقات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.. وهيّا نتخيل أن بين أيدينا كفتي ميزان نوازن بهما بين ما حققه الإسرائيليون وبين ما حققه العرب معا، بدءا من العدوان الثلاثي باعتباره مقياس خسران مادي ومعنوي عسكري للإسرائيليين من جهة وللمصريين -كممثلين للعرب- من جهة أخرى.
في كفة الإسرائيليين سنجد استقرارا اقتصاديا ونهضة صناعية.. فماذا نجد في الكفة الأخرى؟! وفي كفة الإسرائيليين سنجد تفوقا عسكريا بلغ حد امتلاك السلاح النووي وامتلاك منظومات عسكرية تقليدية فائقة.. فماذا نجد في الكفة الأخرى؟! وفي كفتهم سنجد استقرارا اجتماعيا وسياسيا وتجربة ديمقراطية في التداول السلمي للسلطة قلما يوجد نظير لها في محيطها غير العربي.. فماذا نجد في الكفة الأخرى؟ أجزم أن الأجوبة مخيبة لكل ضمير غيور.
في الدروس ذاتها، لنتأمل سورية -مثلا- وقد كانت طرفا آخر إلى جوار مصر في أغلب المواجهات مع الكيان الصهيوني. هل يحق لنا أن نسأل مع هذا التأمل وأن نجاب بصدق: ما الذي يجري فيها؟ وأي دين أو خلق أو سياسة أو ضمير ذلك الذي يسمح بأن تدار المعركة بهذا الشكل من أي طرف كان؟ ومن يا ترى الرابح الحقيقي مما يجري؟ وما هي النتائج الموجبة القيمة التي ستخلفها هذه الأحداث لهذا الشعب ولهذه الأمة ولمن يضرمون مواقد الحرب بالمال والنفط والسلاح والمقاتلين من داخل الحدود وخارجها؟!
الإجابة لا تخرج عن بضعة من رجالٍ مثلنا أبداناً وسوانا قلوباً وعقولا، ويقفون معنا على هذا الكوكب، عشرة هنا وعشرون هناك، ومثلهم معهم يهطعون بينهم جيئة وذهابا.. والجميع يعلم تمام العلم أنهم خدم مطيعون للصهيونية التي تدير هذا الكوكب بثلة من الرجال المخلصين لصهيونيتهم، الذين يعرفون عدوهم تمام المعرفة ويتربصون به أشد التربص، ولن يسمحوا له بالمزاحمة على الصفوف الأولى، ويعلمون أن أيسر الطرق لبلوغ ذلك هو أن يدَعوا خصومهم- وعلى رأسهم العرب- يعلكون بعضهم بعضا ثم يلقي بعد ذلك كل منهم بالآخر إلى المزابل.
هل وعينا الدرس، إذن؟ إن اعتمادنا على ذواتنا هو الدرس الأول، وإذا بدأنا الخطوة الأولى؛ فإننا- دون شك- سندرك- ونحن نلتفت إلى الخلف- أننا قد قطعنا مسافة ستبعث على التفاؤل بما قطعناه وستستحث المزيد.