في رؤية أبو علم الاجتماع ابن خلدون لمراحل نشؤ الدولة وانهيارها ، دروس وعِبرّ فقد وصفها «..كالإنسان تشب وتكبر وقد تتوسع وفي اوج قوتها ويبدأ الترف والرفاه على الحاكم فيبدأ المُلك بالتراجع والوهن ،وفي أواخر عهدها تشيخ عندما يدب الفساد ويحكمها أراذل الناس ..» ، نحن في اليمن منذ عشرينات القرن الماضي لم نصل حتى لدولة ولهذا فحتى نظرية عالم الاجتماع ابن خلدون لا يمكن إسقاطها على الحالة اليمنية لأننا لم نصل يوما ما إلى ما يسمى دولة أصلا!
أما في حالة محاولة إيجاد مقاربة في رؤية علماء الاجتماع والساسة عموما وفي تحليلنا المتواضع لما آلت إليه الأوضاع المزرية في الحالة اليمنية فربما يقف هؤلاء مكتوفي الأيدي وقد تصل تحليلاتهم إلى أفق مسدود لشدة تعقيد الحالة باختلاط الأوراق ، والخصوصية اليمنية التي ميزته عن بقية بلدان الربيع العربي ، ففي أبجديات سياسة الدول داخل أوطانها وتأثيرها وتأثرها بالعامل الخارجي هو عبارة عن تفاعل وتناغم المحدد الداخلي ونشاط أي نظام مع مؤسساته ومواطنيه بسياسته الخارجية ، وفي حال كانت العلاقة طبيعية فأنه حتماً يمتلك الأرضية القوية والرؤية المستقبلية لمشروع نهوض داخلي متزامنا مع علاقات خارجية تستند لتمساك الجبهة الداخلية وهو الأمر الذي ينعكس بداهة في العلاقة الجدلية بين المحددين فيعزز كل منهما الآخر وهذا ما تفتقده الدولة اليمنية منذ إعلان وحدتها لأنها غدت فقط مجرد نصوص وتشريعات ودستور على الورق ، فحالات عدم الاستقرار لازمت اليمن حيناً من الدهر فالصراع الداخلي بين شطريه وحتى بعد وحدته في العام 1990 غدا السمة البارزة وأدت إلى ارتهان القرار اليمني للخارج ،صحيح ان اليمن غدا مرهون الإرادة والمصير جراء الإدارة السيئة للنظام السابق والذي حول اليمن لمزرعة خاصة للمتنفذين ، وطبق مقولة (فرق تسد) فزرع بؤر فتن ليشغل البعض بالأخر لضمان بقائه وإظهاره بصورة المنقذ للخلافات بين مكونات الشعب ، ولهذا عاش اليمن خلال ثلث قرن في أسوأ مراحله ولاسيما بعد حرب 94 وما أعقبها من حلم التوريث وهو الأمر الذي إذكاء حدة الخلاف بين مكونات النظام السابق نفسه من مراكز القوى العسكرية القبلية والتي لازالت تتصدر المشهد السياسي الحالي ، فلو كان هناك دولة مدنية حقا مُنذُ إعلان الوحدة قبل أكثر من عشرون عاما لما حصل كل هذا ، ولما وصل اليمن لهذه الحالة المأساوية ، ولربما كان النظام الحاكم حاكما بحب ورضاء الشعب وليس بقوته المادية وشراء الذمم ، أو لكان خرج من السلطة بسلاسة وليس بمبادرات وتدخلات خارجية .المواطن البسيط والمحلل الحفيص يدرك بأنه قد اتيحت لرئيس النظام السابق فرصة بناء دولة في عدة محطات زمنية ولاسيما بعد حرب 94 وذلك زمناً ومالا ودعم دولي لم تتاح لغيرة منذ قرون.
وعلى خلفية توقيع اتفاقية من قبل اللجنة المصغرة في الحوار(والتي عرفت بوثيقة المبعوث الاممي جمال بن عمر) وكان من المؤمل ان تفتح الباب لحل القضية الجنوبية ، ورغم اللغط حول ما ستسفر عنه تلك الاتفاقية إلا ان هنا ك من يتباكى على الوحدة من هذه المكونات المتحالفة بالأمس المختلفة اليوم ليست من نوايا وطنية ولا حبا في استمرار الوحدة ولكنه المؤكد انه حق أريد به باطل.
ما يقارب القرن مضى على تأسيس الدولة اليمنية وأكثر من نصف قرن على ثورتي اليمن سبتمبر وأكتوبر وما يقارب الربع قرن على وحدة اليمن ولتي لازمها قيام ديمقراطية وتعددية (لدرجة الفوضى)، كانت فترة السبعينيات فرصة لنشؤ للتمهيد لتأسيس دولة مدنية في عهد الراحل الحمدي ، فبرغم انه عسكري وجاء بانقلاب ولكن كان لديك مشروع نهضوي ولكن ذلك الحلم أجهض في حينه.
ففي هذه الأزمنة الطويلة لتعاقب الأنظمة في اليمن خلال ما يقارب القرن قامت دول لها صولات وجولات بمشاريع ورؤى مستقبلية ولكننا في اليمن نرى النتيجة المؤسفة حقا ، فلا نظام جمهوري بل كان يتجه عشية اندلاع الثورة الشعبية للتوريث وتمركز الحكم في أقلية قبيلة أو جهة معينة أو المؤسسة العسكرية ، ولا وحدة فهاهى مهدده بالتفكك لكيانات بإسم الفدرالية ، فمثل هذه المشاريع هى نتيجة لوأد الوحدة في مهدها بعقلية الإقصاء لشركاء الوحدة ، وفي ظل الفوضى الإعلامية لا يمكن وصف اليمن بدولة ديمقراطية منذ أكثر من عقدين بل (ديماغوجيه) وتدليس من قبل السلطة او معارضيها من الأحزاب الانتهازية والرأي العام التائه بين الحقيقة المغيبة وضجيج الأعلام الممنهج لدى مراكز القوى ، ما يساعد على اختلاط المفاهيم لدى الرأي العام أن البعض أسير لتلك الآلة الإعلامية التي تدلس وتضلل الرأي العام ولا زالت بيد النظام القديم والمتنفذون الجدد والأعجب ان الغالبية الصامتة أسيرة تلك المفاهيم الخاطئة التي نعيشها اليوم فلا يستغرب بأن البعض لازال يتغنى بالماضي القريب قبل الثورة الشعبية وكأن اليمن كان في 2011م منافساً لسويسرا في النظام والقانون ورغد العيش ، مع أن إخفاقات اليوم هي نتيجة معطيات الأمس بكل تفاصيلها فالدولة كانت تدار بالتلفون فلم يُؤسس لدولة مدنية ولا لنظام ، مقرونا بتخريب كل مؤسسات الدولة وتنصيب المتنفذين ، فقد دلت الأحداث في بلدان الربيع العربي بأنه كلما طال زمن الأنظمة الاستبدادية كلما كان محو آثارها صعبا ومكلفا فقيادة هذه الأنظمة بدلا من أن تنفق أموال الدولة في تأسيس دولة نظام والقانون ومؤسسات البحث العلمي ومشاريع خدمية تعود بالنفع لمصلحة المواطن ، كانت تستنفذ خزينة الدولة أما في مؤسسة عسكرية فاشلة في ستة حروب آو في أمن للتنكيل بأي حركة احتجاجية أو في هبات وعطايا للمتنفذين وتحويل الوطن بخيراته كمزرعة لهؤلاء ، ولحاشية الحاكم المستبد الذي لم يكن يعتمد على المشورة الصحيحة أو ومراكز الدراسات واستطلاع الرأي العام الحقيقي لتضعه في الصورة لما يجري ، ومن برج عاجي متعالي يعتقد انه صانع المعجزات فوهم الانجازات جعلت منه فرعونا بتمجيد القائد الضرورة فالمجد غير التمجُد وبينهما خيط رفيع هو الإعلام ألمؤدلج والساسة الانتهازيون الذين ركبوا موجة الثورة ، الإشكال والفارق بين التحول في اليمن دون سواها أن أقطاب السلطة من الحرس القديم لا يزالون هم المتصدرين للمشهد السياسي مع خصومهم فكيف يراد من هؤلاء رسم ملامح المستقبل ، وممثليهم هم من يديرون الحوار العقيم منذ ما يقارب العام.
اللافت أن البعض من ساسة اليمن الفاشلين لا يقرون بوجود دولة فاشلة والتي تعكس بالضرورة فشل القائمين عليها ، ممن كانوا متحالفين بالأمس القريب ويتنازعون على تقسيم كعكة السلطة، فمن الواجب الإقرار بفشل الدولة وإخفاقهم ومن ثم الاعتذار من الفاعلين الأساسيين وليس من الحكومة الحالية التي يعزى إليها فساد ثلث قرن من الفساد والحكم المطلق ، ومن ثم يتوارون بناء على الحصانة ، وإلا سنضل نحرث في البحر ، وعلى ماذا يتصارعون اليوم والوطن يتآكل ويتلاشى وعلى شفاء انهيار كامل اليمن فعلامات انهيار تلك الدولة اليمنية غدت هي التي تحدد إطار المشهد الراهن في اليمن، وترسم تجاعيده وأخاديده, ففي رؤية لنتائج دراسات بحث ورصد الحالة اليمنية من جهات خارجية يتبين أن ابرز ملامح إنهيار الدولة غدت السمة البارزة في هذا المشهد ومنها الحالة الأمنية وتدهور الاقتصادي وترهل المؤسسات والتضخم بتكالب الأمم الخارجية كما (تتكالب الأكلة على قصعتها )!
لعل ابرز مؤشرات هذا الإخفاق وعلامات الانهيار هو عجز الدولة عن توفير الخدمات والسلع الأساسية لمواطنيها ،وانتشار الفقر والبطالة ، ناهيك عن غياب الأمن وعندما يصبح عناصر الفساد هم من يتولون تجارة رزق السواد الأعظم وهنا يفقد النظام شرعيته ففي الأمم المتحضرة ، لا يمارس التجارة من يعمل بالساسة ، وعندما تصبح الدولة فاشلة عندما تستقطب الإرهاب من كل حدب وصوب وهذا ما حصل في اليمن في السنوات الأخيرة ، وتصبح الدولة فاشلة عندما يعم السخط مقرونا بالقلاقل والاستياء المتزايد نحو مراكز القوى من المتنفذين الفاسدين من عناصر الأقلية او العائلة الحاكمة ، وعندما تأخذ أساليب الاحتجاجات والسخط والتمرد والاعتراض الجهوي او الطائفي مقرونة أيضا بتقرير المصير ، وهذا ما يحدث في (صعدة) و(جنوب اليمن) ، فالإشكال بين الشعب وحاكمة وليس مع الأرض التي تعاقب بالتقسيم بسكاكين الساسة ، وكذلك من مؤشرات انهيار الدولة عندما تتوفر أجواء الحنق العام وبلوغ ذروتها بمؤشرات الحرب الأهلية تلك فقط هي الحقيقة المؤكدة.
لعل أسوأ مؤشرات فشل الدولة عندما بضعف شعور وإحساس البعض بالانتماء للوطن ويلوذون بالاحتماء بالقبيلة والقوة والمؤسسة العسكرية وكذلك الطائفة والجهوية أو حتى الحزبية ، عندما يكون تماسك الحزب ورئيس الحزب أهم من الوطن نفسه ، وتداول إشاعة (فوبيا الإقصاء) رغم انه لازال الحاكم بأمره ،وعندما لا تستطيع الدولة الفاشلة السيطرة على كل الوطن وتقتصر على المركز العاصمة بينما في اليمن حتى العاصمة غدت بطن رخوة للمؤسسة العسكرية يتم فيها حوداث الاختطاف والاغتيال في رابعة النهار! ، عندما تكون ممتلكات وحقوق الناس منهوبة وهذا ما يحصل في عموم اليمن ولاسيما المحافظات الجنوبية التي غدت مرتعا للقوى المتصارعة اليوم على كعكة السلطة ، وعندما تنتشر المليشيات وقد تكون في لباس المؤسسة الأمنية أو العسكرية وعندما ينتشر الحرس الخاص والمرافقين للوجاهات والشخصيات النافذة ، مع الانهيار المؤسسي لهذه الدولة الفاشلة يتولى أصحاب القوة والنفوذ زمام الأمور وتصبح البلاد مرتعا لهم وتصبح الجماعات المسلحة المحسوبة أصلا للدولة المتناحرة هي سيدة الموقف في أرجاء الوطن ، وكما قال الكاتب والأديب الرائع الأستاذ خالد الرويشان: « الشعب أصدق أنباء من النُخبِ ، والوطن أبقى من الأصنام القديمة والجديدة،الدولةُ أولا أو الطوفان .. وكرامة الإنسان هى من كرامة الأوطان .. والمشكلة متى تقنع الفئران الحاذقة والقطط المتربصة . ». !؟