صبيحة الأربعاء الماضي في المكلا على ساحل بحر العرب كان غائما كاليوم السابق له، حيث لازلنا في زيارة عمل، وأجواء كهذه مع اعتدال الجو في منطقة عادة ما تكون شديدة الحرارة بعثت في نفوس الكثيرين السرور والبهجة، غير أني استشعرت انقباضا في النفس، عزوته إلى تأثير السيجارة الصباحية التي عادة ما تصيبني بالكآبة .. حتى بلغني الخبر الموحش، كوحشة نهارنا الذي لم يشهد إشراقة الشمس.
عبد الرحمن سيف مات.. كان الخبر صادما، رغم معرفتي انه في غيبوبة بعد إصابته بجلطة قلبية منذ أربعة أيام، ومع أنه حالته لم تتحسن، كان هنالك شعور بأن المناضل الجسور سينجح في الإفلات من قبضة الموت، فقد فعلها مرارا، حينما كان يبقى أياما في العناية المركزية، ليفاجأ الجميع بخروجه سالما، لكنها إرادة الله هذه المرة، ولا راد لقدره.
عبد الرحمن سيف الكاتب الصحفي والحزبي الملتزم، والسياسي العنيد، لا تجهله الأوساط السياسية ولا النخبة المثقفة، إذ كان من الرعيل المؤسس لنقابة الصحافيين اليمنيين، ورغم ذاك ظل يبحث سنوات طوال عن عضوية بائسة فيها، حالت دونها معايير خرقاء تتغافل عن إبداعاته وأدواره، فيما هي تمنح ببساطة شديدة لمن هم دونه بكثير مكانةُ وتاريخا، وهو تنكر ما انفك يلازمه طيلة حياته، مهنيا وحتى حزبيا.
ربما كان في سمات الفقيد ما يحجب عنه المناصب ومزاياها، فالرجل العنيد، الملتزم حد التزمت بمبادئ ظل يؤمن بها حتى مماته، لم يكن يداهن ولا يجامل، وهي سمات تجعل من صاحبها منحوسا، بل انه بسبب دفاعه عن مبادئه وانتمائه المبكر للحزب الاشتراكي اليمني تعرض للاعتقال والسجن عديد مرات، ليصبح معتلا بثلاثية أمراض القلب والضغط والسكري، حيث كانت من أسباب وفاته المبكرة والمؤلمة..
ذات مرة قلت له إن الحياة لا ينبغي أن تؤخذ بجدية يا عبد الرحمن، فلم يجبني بغير ابتسامة عريضة أبانت لثته الوردية، فهو رغم جديته وصرامته في مبادئه، ضحوك، حاضر النكتة، لا يعرفها عنه غير القريبين منه.
مات عبد الرحمن سيف وكان أقصى ما وصل إليه وظيفة نائب مدير عام الإعلام والعلاقات بوزارة الإدارة المحلية، ولم يستطع حيازة ما هو أعلى منها، في معاكسة ضدية لتاريخه المهني والحزبي والثقافي، فيما لم يخلف وراءه سوى مئات المقالات الصحفية وبعضا من الكتب المطبوعة وأخرى لا تزال مخطوطة، وأسرة صغيرة لم يترك لها غير هيكل خرساني متواضع، حال ضيق ذات اليد عن استكماله كمأوى لهذه الأسرة الرائعة.. وربما أعان الخيرون من أصدقائه ومحبيه أسرته الكريمة في استكماله، بما يذهب عنهم تغول المؤجرين وجشعهم.
شخصياً، ولأن الفقيد كان متواضعا ودودا، لم يكن ليبخل على أحد بما لديه من علم.. تعلمت على يديه الكثير من أبجديات العمل الإداري، وأيضا الصحافي، خاصة مع حضور مسافات فاصلة بين الدراسة الأكاديمية والممارسة العملية.. غير أني لم أستطع إيفائه حقه، ولم أتمكن من زيارته في مرضه الأخير، ولا النظر إلى وجهه الودود بعد مماته.. وهو ما ضاعف حزني، فلتعذرني روحه الكريمة، ولتغفر لي زوجته الأستاذة الفاضلة ابتسام، وولده الأثير سرمد، وبناته الثلاث الرائعات .. رحمة الله عليك استأذنا الجليل، والحمد لله ولا قوة إلا بالله.