هناك جدل عميق على الساحة الدولية حول مستقبل الثقافة. وفي كل دولة، غالباً ما يبدأ الحوار من السؤال عن دور المثقّفين، وهل هم فئة مهمّة أم هامشيّة، ليصل إلى السؤال عن دور الثقافة في بناء خصوصيّة المجتمع والدولة. لكن، هل من الممكن تحديد من هو المثقّف؟ من المستطاع القول إن المثقّف هو من يعمل في أحد مجالات إنتاج المعرفة ونشرها. وقبل سنوات ليست بعيدة، كانت مشكلة الحصول على المعلومات من أبرز تحديّات الثقافة، واعتُبِرَ أن المثقّف هو من يختزن في ذاكرته كميّة كبيرة من المعلومات ويستطيع أن يربطها ليقدم رؤية تستند إلى معلومات متراصة في صورة متتابعة. لكن، بعد الانتشار الانفجاري للمعلومات في عصر الإنترنت، بات إنتاج المعرفة والعاملون عليها هم الأهم، إذ تدلّ المقولة الشهيرة «المعرفة قوة»، على أن إنتاج المعرفة، وليس مجرد حيازة المعلومات، هي الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء والاستمرار وفرض الحضور على الآخرين، في عصر بات الصراع السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي على أشده.
الفجوة الرقميّة
انطلاقاً من هذه الفكرة، من المستطاع أن نفهم ظهور مصطلح «الفجوة الرقميّة» Digital Divide التي تفصل من يمتلك معرفة فعليّة وبين من يعجز عن مجاراة عصر المعلومات والإنتاج المُكثّف للمعارف. ويتزايد اتّساع هذه الفجوة يومياً، في وقت يثير منتجو المعرفة الرقمية مشاكل مستمرة، مثل إخضاع الشبكات الرقمية لرقابة صارمة، وإثارة عقبات على غرار حقوق الملكية الفكرية، وفرض أسعار مبالغ فيها على البرمجيّات، ما يحرم من لا يملك المال من امتلاك المعرِفَة المُعاصرة فعليّاً. وتؤشّر هذه الأمور إلى وجوب أن يحوز العاملون في مجالات إنتاج المعرفة مستوى عالياً من المعرفة، وضرورة تخزين المعلومات في بنوك لاستدعائها عند الحاجة إليها، وأهميّة تبديل الحكومات والمؤسسات بحكومات إلكترونية وغيرها. وتستدعي هذه التحوّلات التي تمليها التقنيّة ضرورة إنشاء مراكز هدفها تفسير التغيّرات التي تحدث في المجتمعات نتيجة للتحوّلات التقنيّة. وفي هذا السياق، تبرز طبقة المثقّفين باعتبارها تضمّ الأفراد الذين يحاولون تفسير أو استنتاج التحوّلات الحادثة في المجتمعات بدءاً من اندماج الأجهزة والأدوات الخاصة بالاتصال (التلفزيون - الراديو - الصحيفة - الكتاب - خدمات الإنترنت...)، في جهاز مفرد كالـ «آي باد»، إضافة إلى توحّد الأفراد مع هذا الجهاز، ونشوء مجتمعات افتراضية بعيدة من الواقع الفعلي. وعلى نطاق واسع، يُنظَر إلى تحوّلات التكنولوجيا وما يرافقها من متغيّرات اجتماعيّاً، بصفتها منطلقاً لفلسفة جديدة تسعى الى إنقاذ البشرية من الغرق في العالم الرقمي، خصوصاً اعتباره الحقيقة الوحيدة في الحياة!
في هذا السياق، بات من الصعب الحديث عن دور مؤسسات الثقافة أو وزاراتها، في صناعة مستقبل الثقافة العربية، إذ ما زالت تلك المؤسسات بعيدة تماماً من هذه الصناعة. وكذلك دأب المثقّفون على أن يلتحقوا بمؤسسات ثقافية ليعملوا من خلالها فتعطيهم الشهرة، أو يرأسوا مجلات ثقافية أو دوريات علمية. وتؤدي هذه الصورة إلى بروز مُحدّدات عدّة، على غرار قوة المعرفة، صناعة المعرفة وصُناع المعرفة. إذ تحدّد قوة المعرفة حاضراً، قوة الدول والمجتمعات، وتمثّل صناعة المعرفة أداة أساسيّة للدولة في الوصول إلى هدفها في حيازة المعرفة. ولم يعد صُناع المعرفة أولئك المثقّفين التقليديين، بل باتوا ينقسمون حاضراً إلى فئات منها الأفراد المبدعون، والمؤسسات الحكومية كوزارات الثـقافة والـهيئات الثقافية التي لعبت خلال الخمسين عاماً الماضية الدور الرئيسي في صناعة المعرفة وتحول صناعها إلى موظفين لديها. ومن هذه الفئات أيضاً، مؤسـسات المجتمع المدني التي ربما تكون في هيـئة مؤسسات، كمؤسـسـة «الفكر العربي» التي نهضت على دعم مجموعة من الشخصيات العامة العربية، أو «المجلة الثقافية الجزائرية» التي أخرجت الثقافة الجزائرية من محيطها الوطني الضيق إلى الوطن العربي الكبير للمرّة الأولى، عبر جهود تطوعية من مثقّفين جزائريين، أو موقع دار الكتب الإلكتروني المصري الذي قام على أكتاف مجموعة من الشباب.
لذا، فإن من يمتلك المعرفة يمتلك قوة التأثير والفاعلية في مستقبل الثقافة العربية. ومن دون الخوض في صناعة المعرفة بأشـكالها كافة، تُــسد الآفـاق أمام مستقبل هذه الثقافة. هل حان الوقت كي يفكر صُنّاع هذه الثقافة، وكذلك مستهلكوها، بجدية في مستقبلها في ظل عصر الإنترنت؟