�م يكن الـ 13 من سبتمبر 1990 يوماً لإعلان ميلاد الإصلاح بقدر ما كان يوماً لإعلان الانتقال الاستراتيجي للحركة الإصلاحية إلى المشروعية السياسية بمفهومها الواسع.. حزب الإصلاح ولد عملاقاً في يوم 26 سبتمبر 1962 أعلنت قيادة الثورة عن مبادئ وأهداف الثورة اليمنية الستة، وهي بمثابة وثيقة تاريخية، ومرجعية استراتيجية تحكم حياة اليمنيين وتشكل أساساً مرجعياً لدستورهم السيادي. المعلوم أن النظام الجمهوري الجديد قد جاء على أنقاض حكم إمامي ديني يحتكر تمثيل الدين وحق إصدار الفتوى؛ باعتبار ذلك حقاً إلهياً لطبقة الأئمة وحدهم. هذا الاحتكار الإمامي كان قد أُزيل بفعل الثورة، وأصبح بإمكان أي مواطن أن يمارس السياسة والدعوة، وحق التعليم، وحق النقد، وأن يخطب في مساجد المسلمين. في تلك الآونة كانت الحركة الإسلامية اليمنية كحركة دعوية إصلاحية تمثل حاجة ماسة للنظام الجمهوري لملء الفراغ الديني والوظائف الدينية والتعليمية والعدلية والوقفية التي كانت محتكرة على طبقة الأئمة وحدهم، فضلاً عن أن تحقيق أهداف الثورة الستة التي تؤكد على ضرورة إزالة مخلفات الأئمة الثقافية والفكرية والطبقية قد جعل من الحركة الإسلامية حاجة وطنية وثورية من أجل تحقيق هذه الأهداف على النحو الذي يعطي الانطباع للجماهير اليمنية بأن الثورة السبتمبرية لم تكن ضد الدين، لاسيما في ذلك الوقت الذي كانت فيه الإمامة تشن حربها ضد الجمهوريين باعتبارهم ضد الدين، بل إن الثورة كادت أن تنهزم لأنها ثورة الملحدين كما صورتها أبواق الدعاية الإمامية في حينها. دور حركي في إطار مفردات الحركة الوطنية رغم أن الشاطئ الثوري السبتمبري كان قد احتضن كل الألوان الثورية من اليمين واليسار والوسط، فقد ظلت الحركة الإصلاحية اليمنية بمرجعيتها الإسلامية جزءاً من المرجعية الوطنية والثورية وإن كان في حدود ملء الفراغ الديني الذي تركه الأئمة، وهو الدور الذي كان محل ترحيب من جميع المخرجات الثورية ومفردات الحركة الوطنية لاسيما تلك التي كانت مستهدفة من قبل الأئمة باعتبارها مخرجات إلحادية! الحقيقة إن هذا الوضع المتميز للحركة الإصلاحية كان كفيلاً بأن يدفع بهذه الحركة إلى أن تكون أهم وأكبر أعمدة الدولة الجمهورية الوليدة؛ ولكن يبدو أن الحركة الإصلاحية في حينها لم تكن مقتنعة بدور مالئ الفراغ الديني لما يترتب على هذا الدور من إعادة إنتاج الهيمنة الدينية الثيوقراطية التي قامت الثورة من أجل تقويضها أصلاً، لاسيما وأن كل اليمنيين مسلمون ولا يحتاجون إلى وصاية دينية من هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي ظلت الحركة الإصلاحية تبحث عن فرصة للانتقال الاستراتيجي من المشروعية الدعوية وملء الفراغ الديني للثورة إلى المشروعية الوطنية والسيادية بمفهومها الواسع. لا أحد ينكر أن الحركة الإصلاحية استفادت من هذا الفراغ الديني في مؤسسات الوظائف الدينية والتعليمية بعد قيام الثورة، حيث تمكنت من ممارسة نشاطها الإسلامي والدعوي في وقت كانت فيه الحكومات المتعاقبة للنظام الجمهوري مستفيدة من هذا الدور أيضاً لسدّ الفجوة التي كان ينفذ من خلالها الإماميون في حربهم ضد الجمهوريين. شراكة نضالية في اجتثاث موروث الأئمة صحيح أن الحركة الإصلاحية اليمنية بشراكة قوى الحركة الوطنية ودعم النظام الجمهوري استطاعت أن تجتث الكثير من فكر الأئمة، وأن تنجز القدر الكبير من أهداف الثورة، وأن تزيل الكثير من الفوارق بين الطبقات من خلال نشاطها الدعوي والتعليمي بين الجماهير، لكنها لم ترتكز في عملها الدعوي هذا على مشروعية تعاقدية صريحة مع الحكومات الجمهورية المتعاقبة وبشكل معلن وموثق كما تفعل بعض الحركات الثورية والجماعات الدينية والفئات العصبوية التي ترافق عملية ظروف نشأة الدولة الجديدة؛ لأن هذه الحركة تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من مرجعية الثورة، رغم أنه لم يكن بمقدور أحد أن ينافسها هذه المشروعية، طالما وقد انحصرت في إطار الوظيفة الفكرية الدينية التي ليس لها منافس ديني أو دعوي في ذلك الوقت، ولكن الحركة الإصلاحية لم تختار هذا الدور ولم تبحث عن هذه المشروعية الاصطفائية، بل لم تبذل أي جهد لامتطاء صهوة المشروعية الثورية بدعوى تمثيل المشروعية الدينية والدعوية لأنها كانت لا تحتاج إلى ذلك كون وجودها وأمنها جزءاً من وجود وأمن النظام الجمهوري؛ فضلاً عن أن الحركة كانت تمثل حاجة وطنية ثورية خالصة باعتبارها حركة دعوية إحيائية عامة كغيرها من الدعوات المتحركة في جميع الأوطان والشعوب، ومن ثم ظلت تبحث فقطعن الفرصة المواتية للانتقال الاستراتيجي إلى المشروعية السياسية العامة المكفولة دستورياً كغيرها من مفردات الحركة الوطنية. ما هو معلوم في هذا الوضع أيضاً أن الأنظمة الجمهورية المتعاقبة على حكم اليمن هي الأخرى كانت قد عجزت عن ممارسة مهامها السيادية في إطار المرجعية الوطنية الثورية العليا، بل إن النظام الجمهوري ظل يعيش في فراغ استراتيجي، وغياب مرجعي بفعل اتساع رقعة الصراع والحروب الأهلية واستمر هذا الوضع الملتهب إلى أن تحققت المصالحة الوطنية والتي بموجبها عاد الأئمة لممارسة دورهم من جديد في إطار النظام الجمهوري؛ الأمر الذي أدى إلى اضطراب في استراتيجية النظام الجمهوري إلى الحد الذي عجز فيه هذا النظام عن تثبيت أي قاعدة من قواعد الدولة الوطنية، وهو الأمر الذي دفع الحركة الإصلاحية مع بعض الكيانات القبلية إلى الدخول في حالة شراكة وطنية مستدامة وغير معلنة مع الأنظمة الجمهورية المتعاقبة بهدف إرساء دعائم الثورة اليمنية والانتقال بالنظام الثوري إلى الشرعية الدستورية، وبموجب ذلك تم الإعلان عن أول وثيقة دستورية لليمن وتشكيل أول مجلس وطني برئاسة الشيخ المناضل عبدالله بن حسين الأحمر. لا شك بأن جهود الحركة الإصلاحية قد أسهمت في تأسيس بعض القوام الاستراتيجي للدولة اليمنية، وأرست دعائم الشرعية الدستورية، ورسخت بعض قواعد العمل السياسي والديموقراطي، وأرست مداميك التجربة الانتخابية، إضافة إلى جملة من الإنجازات التربوية، وتصحيح القوانين الوطنية والمناهج التعليمية، وغير ذلك، وكلها مكاسب حقيقية لا يمكن لأحد أن ينكرها، ولكنها ظلت مكاسب لا تتمتع بأية حماية ولا غطاء استراتيجي مما عرضها للإهدار من قبل رموز الحكم الفردي والأسري والعصبوي الممسكين بمراكز السيطرة العسكرية والأمنية. يأتي هذا في وقت كانت بعض مكونات القبيلة الجمهورية هي الأخرى قد تخلت عن بعض أدوارها كطليعة ثورية مناضلة عقب تحقيق المصالحة الوطنية الأمر الذي أدى إلى احتفاظ النظام الجمهوري بقدر كبير من موروث الإمامة الاجتماعي والعرفي. الوحدة اليمنية كمحطة انتقال استراتيجي جاءت الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م والحركة الإسلامية لا تتمتع بأي غطاء استراتيجي يمكنها من التعاطي مع هذا الحدث الوحدوي كقوة وطنية سياسية مستقلة ومتمتعة بمشروعية استراتيجية سوى ما وفره التباين بين شريكيّ حكومة الوحدة الذي من خلاله استطاعت الحركة فرض وجودها الاستراتيجي وبسط مشروعيتها السياسية على المشهد السياسي الوحدوي، لاسيما وأن الوحدة قد ارتكزت -في حقيقة الأمر- على أساس سلمي توافقي، فضلاً عن استنادها إلى قاعدة أمنية راسخة قوامها التصالح السياسي، وغلق ملفات الصراع الماضي، وهو ما أدى إلى خفض منسوب الهواجس الأمنية لكل الأطراف إلى درجة ما دون الصفر، وخاصة بعد أن أطلق بيان الوحدة جملة من الإشارات والتباشير الأمنية المتصلة بقضايا الصراعات التاريخية التي كانت قد تشكلت أيديولوجياً بفعل التشطير وحركة الاستقطابات الدولية في مراحل الحرب الباردة، وهو ما جعل الحركة الإصلاحية تنظر للوحدة -على صعيد الأمن الوطني الداخلي- بأنها ستكون بمثابة العاصم الأمني الوطني الذي سيعصم كل مفردات الصراع وأدواته التي تشكلت بفعل التشطير، وبالتالي سيمنعها من ملامسة الموروث الانتقامي الذي شكلته هذه الحالة، وهو ما سيحول بالطبع دون انزلاق هذه المفردات إلى أتون الصراع الانتقامي المدمر الذي انزلقت إليه بعض الأطراف في بعض الدول ذات الأوضاع المشابهة لليمن بحكم التأثير المشترك الناجم عن تداعيات الحروب الأهلية أبان الحرب الباردة. أما على صعيد الأمن الإقليمي، والأمن الجماعي الدولي، فإن الحركة الإصلاحية كانت على ثقة بأن العالم الخارجي بدون شك قد قرأ بيان الوحدة باعتباره إعلاناً يمنياً رسمياً وشعبياً للعالمين الإقليمي والدولي مفاده بأن اليمن الذي كان يشكل بشطريه المتصارعين قلقاً للأمن الإقليمي والدولي في المنطقة قد تحول بفعل قيام الوحدة اليمنية إلى منطقة ضامنة للأمن الإقليمي والدولي بعد أن تخلى النظامان في الشطرين على كل مشاريعهما وأجندتهما الصراعية والأيديولوجية، وبالتالي فإن الوحدة قد تحققت على قاعدة المشترك الوطني بين الشطرين بكامل قوامهما الاستراتيجي، وهو القوام الذي أصبح بفعل قيام الوحدة قواماً استراتيجياً ضامناً للأمن الإقليمي والسلم العالمي. لا شك أن مثل هذه الإشارات الأمنية التي أطلقتها الوحدة منذ يومها الأول كانت بمثابة تطمين للشركات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وللمستثمرين الدوليين بأنهم لن يكونوا هم واستثماراتهم ضحايا لهذه الصراعات الانتقامية ولا ضحايا للإرهاب، ولا ضحايا للابتزاز باسم الإرهاب، وهو ما سيشجعهم للدخول بأموالهم ومعداتهم للاستثمار في اليمن، في إطار هذا الزخم الوحدوي السلمي المتعاظم، وخاصة تلك الشركات النفطية العالمية التي كانت قد حزمت حقائبها نحو المثلث الصحراوي بين (مارب ـ شبوة) و(مارب ـ حضرموت) الذي كان إلى ما قبل الوحدة يمثل –من الناحية الوطنية- منطقة تماس حدودي بين الشطرين، و-من الناحية الإقليمية- منطقة الخط الفاصل بين المد السوفييتي الثوري القادم من الجنوب ومنطقة آبار النفط والمصالح الأمريكية في الجزيرة العربية إبان الحرب الباردة. هذا المثلث الملتهب كان قد تحول بفعل هذا المناخ الوحدوي السلمي، والآمن من منطقة تماس حدودي مضطرب إلى عمق وطني وحدوي خالص، وبالتالي أصبحت هذه المنطقة الشرقية من الوطن اليمني الموحد محط اهتمام الجميع في الداخل والخارج، لاسيما تلك المنطقة الغنية بحقول النفط والغاز التي اتجهت إليها أنظار المستثمرين الدوليين الباحثين عن الفرص الاستثمارية، واشرأبت إليها أعناق اليمنيين المتطلعين إلى مستقبل أفضل من الرفاه. نعم الجميع في الداخل والخارج من المستثمرين الدوليين، والمستفيدين الوطنيين على حد سواء كانوا على أمل واحد وهو أن تغدو هذه المنطقة في ظل العهد الجديد للدولة الوحدوية منطقة أمن وسلام لكل الشركات الاقتصادية والاستثمارية القادمة من مختلف مناطق العالم، لا ميدان صراع من ميادين الصراع الجديدة لما يسمى ب (الحرب على الإرهاب)، أو ميادين لتصفية الحسابات السياسية وتمرير بعض التطلعات ومصالح النفوذ الإقليمية على ذمة هذه الحرب وتحت غطائها. الأهم من ذلك بأن الوحدة اليمنية كانت قد ارتكزت على أساس ديموقراطي، حيث تلازمت الوحدة مع الديموقراطية القائمة على مبدأ التعددية السياسية والنظام السياسي التعددي وهو ما شكل عنصر الحسم في تحويل هذا الحلم الوحدوي إلى حقيقة أطلقت العنان لحريات إنسانية كانت مقموعة في عهود التشطير، وجاءت الوحدة لتضمن هذه الحريات من جديد في بيانها الأول. ومن ذلك حق الممارسة السياسية في إطار مبدأ التعددية والمشاركة الشعبية، واعتبرته مبدأ يستقيم عليه الحكم، وهو المبدأ الذي ارتكزت عليه الحركة الإصلاحية باعتباره يمثل الفرصة السانحة للإعلان عن الانتقال الاستراتيجي للحركة الإصلاحية اليمنية من المشروعية الدعوية المحدودة إلى المشروعية السياسية العامة في إطار مبدأ التعددية السياسية ومن ثم إعلان ميلاد التجمع اليمني للإصلاح كأول وليد سياسي يولد عملاقاً من اليوم الأول لميلاده. *نائب رئيس الدائرة السياسية للتجمع اليمني للإصلاح