فكرة الانفصال أو فك الارتباط كما يسمونها هي في حقيقة أمرها تعني تمزيق البلد الواحد إلى شطرين أو أكثر من ذلك هي فكرة أجنبية في مرامها وغاياتها وأهدافها، كما حدث في فصل سوريا عن مصر بعد أن اتحد البلدان أو القطران في كيان واحد، حين تنازل الزعيم الوطني المشهود له بالإخلاص والنزاهة عن مكانه كرئيس للجمهورية السورية للرئيس جمال عبدالناصر، رئيس جمهورية مصر ليصبح هو رئيس لدولة الوحدة.
لم تكن هناك حدود مشتركة بين مصر وسوريا، فقد كانت هناك الأردن وكانت هناك إسرائيل العدو الأول للوحدة، فانتهز الانفصاليون وجود أخطاء حدثت بين صفوف القوات المسلحة والأمن، وأخطاء أخرى حدثت في الممارسات الإدارية كان بالإمكان جداً تفاديها.. ومن هم الانفصاليون؟؟ لقد توهّم الناس حينذاك أنهم فصيل من الجيش السوري بقيادة الكزبري، لكن الأمر لم يكن كذلك فقد كان الكزبرى وفصيله مجرد أداة استخدمها أعداء الوحدة لتنفيذ المؤامرة ضد الوحدة العربية وضاعت الفرصة من الأمة العربية التي خرجت حينها تبكي بكاءً مُراً حزيناً من بلاد المغرب وشمال أفريقيا إلى أرض العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية، وتمضى السنوات الطويلة مسرعة ومهرولة لنرى بأم أعيننا أوضاع سوريا وأوضاع مصر بعد حدوث الانفصال منذ أكثر من نصف قرن من الزمان وحدث مثل ذلك في فك الارتباط كما يسمونه بين باكستان وبنجلادش وهما بلدان مسلمان، ولكن لا توجد بينهما حدود مشتركة، فدولة الهند بينهما لم تكن لترتاح لهذه الوحدة المسلمة، فكانت الإرادة الخارجية أقوى من عرى الترابط الداخلي، وانفصل جنوب السودان عن شماله ليس بسبب اختلاف ديانة الجنوب فقط عن ديانة الشمال المسلم، ولكن لأن إرادة التقسيم جاءت من خارج السودان، وكان من حسن حظ هذه الإرادة الخارجية أن تجد في جنوب السودان زعماء يتوقون للانفصال عن السودان «الأم» باعتبارها كانت «خالتهم» وليست «أمهم» بسبب اختلاف الثقافة والرؤية والعقيدة والعادات والتقاليد، أو حتى السمات واللون الداكن الذي كان في الجنوب يميل في معظمه إلى الملامح واللون الزنجي أكثر مما كان في الشمال.
فهل يختلف اليمنيون في جنوب اليمن عن إخوانهم في شمال اليمن في أية خصلة من الخصال سواء في سمتهم أو سماتهم أو في ألوانهم وأشكالهم؟
أليس المنشأ واحد والثقافة واحدة، أليست عقيدة اليمن واحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فأين المشكلة إذن؟.
إن الإنسان ليعجب أشد العجب عندما يستمع إلى المتحدثين من القنوات الانفصالية من أين جاءوا بهذا الكم الهائل من القدرة على قلب الحقائق والمغالطات وتزييف التاريخ من أجل تضليل الشباب وصرفهم عن التعرف على تاريخهم وعقيدتهم وتراث أمتهم.. لقد جعلوا من “البرع” والرقص والحركات المجونية وتمايل الأعلام الانفصالية في الشوارع والأزقة ملهاة للشباب من الذكور والإناث فأخذ المساكين يتمايلون ويرقصون على نغمات صاخبة وهادرة يرددون عبارات انفصالية وأقوالاً نابية وعبارات غير لائقة، رسمت في أوكار التآمر في بيروت وكُتبت في متاكئ القات، في حارات الموالعة أو جلسات الانبساط أو الافتهان عند الشواطئ الدافئة وشاليهات الأنس، وكأن هذه الأعلام الانفصالية ليست سوى خرق ملونة يستطيع إبليس أن يصنع منها مليون خرقة، لو كان يعلم أنها ذات جدوة لأنصاره، لكن إبليس نفسه وهو عنصر أساسي في النزعة الانفصالية يعلم أكثر من غيره أن حجة الانفصاليين داحضة، خصوصاً بعد نتائج مؤتمر الحوار التي انتصرت انتصاراً عادلاً لأهلنا وإخواننا في المحافظات الجنوبية الذين لم يكونوا وحدهم الذين تعرضوا لمساوئ وقسوة حكم الزعيم الواحد والحزب الواحد، بل شاركهم أهلهم وإخوانهم في المحافظات الشمالية.
إن الانفصاليين كما نشاهدهم في الفضائيات لا يتحدثون عن تاريخ اليمن، ولا عن ثقافته.. لا يتحدثون عن أهمية وضع أسس للتربية السليمة والأخلاق الحميدة، ولا عن أهمية تنشئة الشباب والفتيات تنشئة مبنية على الثقة بالنفس والاعتزاز بالهوية كأمة واحدة متحابة ومتجانسة.
بل إنهم على العكس من ذلك تماماً يوغرون الصدور ويشيعون الفرقة بين أبناء الوطن الواحد ويزرعون الأحقاد، يرسلون مجاميع لهم تندس بين المتظاهرين للصراخ والعويل، وترديد هتافات معادية للوحدة وهتافات تحمل عبارات نابية، وهتافات تشوّه التاريخ وتعمق المناطقية، وتؤذي الأحياء والأموات من شدة عفونتها وروائحها الكريهة، فهذا دحباشي وذاك حراكيشي، وثالث جبلي ورابع تهامي، وهكذا تمضي بعض هذه المسيرات دون ضوابط وطنية أو أخلاقية، تتحرك بالريموت من مكان بعيد من أولئك الذين فقدوا ارتباطهم بالوطن منذ أن قرروا أن يكونوا تجار سياسة وتجار سلاح وخناجر انتقام وسياطاً تُلهب ظهر الوطن بحجة أنهم ينتقمون من الذين مكروا بهم بالأمس، هؤلاء الساسة والزعماء الذين رسخت في أذهانهم أنهم قد مُكر بهم لم يستطيعوا أن ينسوا أحقادهم مع خصومهم السياسيين، بل قرروا الانتقام كما يفعل الأعراب الذين يسرحون في الصحراء خلف الجمال والإبل لم يستطيعوا إلا أن يتشبهوا بالبدوي الذي يسكن الخيام فلا ينسى حقده، لأن حقده مستمد من طبيعة الجمل الذي يصحبه في حلّه وترحاله، لم يستطيعوا أن يرتقوا بأخلاقهم إلى مستوى أخلاق أبي عبيدة وخالد بن الوليد الذين عُزلوا من القيادة فصاروا جنودا لم يتغير شيء في نفوسهم تجاه واجباتهم نحو عقيدتهم، بل أنهم لم يستطيعوا حتى أن يقتربوا مجرد اقتراب من سلوك نلسون مانديلا في تعامله مع خصومه الذين أودعوه السجن سبعاً وعشرين عاماً دون وجه حق، بل ظلماً وعدواناً ومع ذلك لم يخرج لينتقم ولم يقرر أن تكون له قناة فضائية تمجده وترمي الآخرين بشواظ من نار.
لم يشغل هؤلاء المتحدثون في الفضائيات الانفصالية كيف شاركوا في ضياع سنوات أعمار الشباب بدون تعليم، ولا ثقافة سليمة ولا أخلاق متوازنة، وإنما كل الذي يشغلهم هو ترديد ما ضاعت عليهم من خسارة مادية لم يهمهم سوى ضياع الممتلكات والعقاقير والضيعات، يصورون للشباب والفتيات الذين يزرعون في نفوسهم الحقد أن هناك غبناً قد وقع عليهم وحدهم، كأن المحافظات الشمالية لم تتعرض لنهب وسلب وظلم وسرقات، مثلها مثل المحافظات الجنوبية، لم يستطع الانفصاليون أن يرتفعوا إلى مستوى قول الحقيقة في أنه قد كان هناك ظلم وأخطاء وانحرافات في طريقة الحكم عمّ شره الوطن بكامله.. إن القلوب السوداء لا تصلح لحكم الجنوب أو حكم الشمال، فالقلوب السوداء هي أداة تدمير وليست أداة بناء، فالذين يرون أنفسهم أنهم قادرون على هدم الوحدة، فإنهم بكل تأكيد سوف يكونون قادرين على الهدم في كل من الشمال أو الجنوب، ولن يكونوا قادرين على البناء لا في الشمال ولا في الجنوب.
لمّا آلت الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز كتب إلى سالم بن عبدالله بن عمر، يقول: أما بعد فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من ولاية الأمر عن غير مشورة مني ولا طلب، فأسال الله الذي ابتلاني بهذا الأمر أن يعينني عليه.. وطلب منه طلباً، فكتب إليه سالم يقول: أما بعد: فقد جاء كتابك الذي تذكر فيه ما قد ذكرت، وأنك تريد أن تسير بسيرة عمر، فاعلم أنك إن نويت الحق وأردته أعانك الله عليه وأتاح لك عمّالاً يقومون لك به، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب فإن عون الله لعبد على قدر نيته.
فمن تمت نيته في الخير تم عون الله له، ومن قصّرت نيته نقص من عون الله له بقدر نقص نيته، وإذا نازعتك نفسك إلى شيء مما لا يرضي الله عز وجل فاذكر من كان قلبك من ذوي السلطان الذين سبقوك إلى الرحيل عن هذه الدنيا.. كيف تفقأت عيونهم التي كانوا يشهدون بها اللذات وبطونهم التي كانوا لا يشبعون بها من الشهوات وكيف صاروا جيفاً.. و.. و... انتهى..
أليس هذا تاريخ؟ لماذا لا نعلّمه لأبنائنا؟ أليس هذا نموذج رائع لسلوك المخلص النزيه؟ لماذا لا يقتدي به حكامنا ورؤساؤنا.. إن تراثنا وثقافتنا وتاريخنا تزخر بالصور المشرقة للحكم، فلماذا نخدع أبناءنا ونضلّلهم ونملأ رؤوسهم بثقافة العنف والكراهية؟.