أحاول أن أتدارك هنا ما فاتني في السابق، فقد أفلتت مني الإشارة إلى الحضور الكثيف للمرأة اليمنية التي تجاسرت وقادت الرجال في مواقع النضال والصمود، حتى كنّا لا نطرق باباً للنضال السلمي إلا وجدناهن سباقات يقدننا بعزم وعزيمة عزّ نظيرها، ولم يسعني في المقال السابق غير الحديث عن الفتيات اللواتي واصلن ليلهن بنهارهن وهن يعملن بالساحات في شتّى القطاعات خاصة في المستشفيات الميدانية.
وكان للثائرة توكل كرمان دور محوري في اقتياد “نوبل” إلى اليمن، وأعطت الثورة جرعة يقينية أنها ماضية في اتجاه النصر، ولفتني كثيراً أن بنات جنسها من المخالفات لها سياسياً ظللن يشمتن فيها و«نوبل» حتى خرج الزبد من أفواههن كغثاء السيل..!!.
وفاتني أيضاً أن أحيّي تعز حاملة مشاعر التنوير، وحمالة الأحزان بصبر الجبال، فقد كان أبناؤها مشاعل الثورة في أغلب المحافظات، لهذا كان لها نصيب الأسد من ضغائن صالح ونيرانه، غير أن ما يؤلمني الآن هو لمز موجع قاله لي الرجل الذي كان الذراع الأيمن لصالح، قال كمن يشمت بي: “والله وضع تعز الآن مؤلم، هذه المحافظة التي حرّكت الثورة وقدّمت قوافل الشهداء، تأخذ اليوم نصيب الأسد من الدمار والخراب والفلتان الأمني، والتمثيل الوظيفي لثوارها”..!!.
لم أشأ الدخول معه في نقاشات؛ وإلا فهو يعرف أن أعوان صالح لايزالون يشفون غليله من تعز، مستفيدين من تفاهة الأحزاب هناك، وعدم التفافها مع محافظ لا أرى فيه غير رجل يحمل مشروعاً ورؤية.. بعد أن أيقن صالح من قدرته في عسكرة الثورة، وتمكنه من إذلال تعز بحرب مفزعة وقصف عنيف من كل اتجاه؛ فاجأه شباب تعز بنوع جديد من النضال السلمي المفزع، وتحرّكت مسيرة راجلة في أواخر ديسمبر 2011م قطعت قرابة 300 كليومتر مشياً على الأقدام، حملت اسم “مسيرة الحياة” حتى إن بعضهم تُوفي من شدة الإرهاق والمشي في مناطق جبيلة درجة حرارتها تحت الصفر، وفي كل مديرية ومحافظة مرّ بها الثائرون؛ كان الناس يستقبلونهم بحفاوة وكرم باذخ، وينضمون إليهم حتى تكاثرت الحشود الهادرة، وعلى مشارف العاصمة كان هدير المسيرة يوجّه رسائل إنذار قوية في اتجاه المستقبل، وكان الوعد اللئيم ينتظرهم؛ فقد واجهتهم قوات نظام صالح بعنف مبالغ، فيما ذهبت بعض الأحزاب تتسلّق على جدران ثورية الشباب وتعتبر مسيرتهم امتداداً لنضالها بعد أن كانوا يرون فيهم “مراهقين يسيّرهم الأمن القومي..!!”.
وبطبيعة الشعب اليمني المتدين؛ فقد استمال رجال الدين كثيراً من الناس للانضمام إلى الثورة، وهذه رواية قد تبدو مزعجة للتيار الليبرالي؛ لكنها حقيقة من الصعب تخطّيها.
وأثناء وبعد الثورة دفع عدد من الكُتّاب بمؤلفات عن ثورة فبراير، محسوبين على طرفي الصراع، ومنهم من حاول الاقتراب من الحقيقة، ومنهم من قال نصف الحقيقة وجيّر نصفها الآخر إلى حساب حزبه وجماعته، ومنهم من مارس التزوير المبكّر لحقائق الثورة، ومنهم من كتب عن كل شيء إلا الحقيقة..!!.
لقد انطلق الشباب وقادوا الأحزاب وحافظوا على سلمية الثورة طوال مسيرتها النضالية، وجاء المسنّون الذين يُفترض أن يتفرغوا للعبادة أو على الأقل لكتابة مذكّراتهم وتوجيه النصائح، واستولوا على مكتسبات وثمار الثورة وتركوا الشباب ينزفون غبناً، وينتظرون فرصة لتصحيح مسار ثورتهم.