جدل كبير يدور حول موقف الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي تجاه الاحداث والمواجهات التي تشهدها المحافظات الشمالية في اليمن والتي وصلت الى المناطق القريبة من العاصمة صنعاء والمحيطة بها من اكثر من اتجاه , وهو ما يصوره البعض حصار للعاصمة صنعاء وتهديدا للدولة اليمنية وللنظام الجمهوري يقابله تقصير من الرئيس هادي الذي لم يتخذ قراره ويصدر توجيهاته للجيش اليمني بمواجهة هذا التهديد الصادر من جماعة الحوثي , وما نحاول الاجابة عليه في هذا المقال هو ما طبيعة المواجهات التي تتم في المحافظات الشمالية في اليمن ؟ ولماذا لم يتخذ الرئيس هادي قراره بتدخل الجيش بصورة رسمية في هذه المواجهات ؟ .
ما تشهده المحافظات الشمالية في اليمن من مواجهات بعد احداث العام 2011م – ما تسمى بالربيع العربي - تأتي جميعها على خلفية واحدة وهي اعمال قطع طرق وقتل عناصر من جماعة الحوثي وهم مسافرون امنون في غير قتال , فالمواجهات التي شهدتها مناطق حاشد وارحب وحرض والجوف ووصولا الى همدان الملاصقة والمتداخلة مع العاصمة اليمنية صنعاء كانت كلها قد بدأت بقطع طريق او بقتل عناصر من جماعة انصار الله وهم مسافرون وفي غير قتال , كما ان كلها كانت تنتهي بفتح الطريق و بعقوبات قبلية تتم بحق من قتلوا المسافرين , وسواء بان يتم ذلك بحسم جماعة الحوثي للمواجهات عسكريا لصالحها او بلجان الوساطات التي تتدخل بين الطرفين وتفضي الى اتفاق صلح تعاد فيه الامور الى نصابها واول ذلك هو فتح الطريق العامة امام الجميع .
كانت جماعة الحوثي على خصومة مع الدولة في عهد الرئيس صالح , وخاضت الدولة معها ست حروب ضروس لم تتمكن بها من القضاء على الجماعة او حتى من اضعافها , وهذه الحروب اشتركت فيها كل قوى النفوذ التي كانت تتشارك الدولة اليمنية في عهد صالح , ومنها القوى التي لازالت تحتفظ بمراكزها و نفوذها في الدولة اليمنية في عهد الرئيس هادي , و هي قوى لا زالت خصومتها مع جماعة الحوثي قائمة باعتبار ما ترى انه سيترتب على نمو هذه الجماعة وتوسعها , سواء من ناحية نفوذها واحتكارها للقرار في البلد ومصالحها او ما سيلحقها من تبعات على خلفية الحروب التي خاضتها سابقا مع تلك الجماعة .
كان الانتشار والتوسع المتسارع لجماعة الحوثي في الكثير من الاماكن في البلد بما فيها العاصمة صنعاء مزعجا جدا لقوى النفوذ تلك , وبالتالي عمدت الى مواجهته بأطلاق الايادي التابعة لها لمواجهة الجماعة ومضايقتها في اكثر من مكان وبأكثر من اسلوب وصولا الى اعمال قطع للطرق العامة المؤدية الى محافظة صعدة - معقل جماعة الحوثي - والى قتل عناصر من الجماعة غير قتال , وهذه الاعمال هي اعمال مجرمة قانونا وشرعا وقبليا لكنها كانت تعتمد في الاقدام عليها على وجود قوى النفوذ التي ترتبط بها في الدولة وفي غيرها وتوفر لها الغطاء اللازم للأعمال المجرمة التي تقوم بها ضد جماعة الحوثي .
ادارت جماعة الحوثي صراعها هذا مع قوى النفوذ بحنكة , فقبل ان تنطلق لمواجهة ما قامت به ايادي قوى النفوذ من اعمال ضدها بداءات بمطالبة الدولة بتحمل مسئولياتها ورفع القطاعات من الطرق و تأمينها باعتبارها طرق عامة للجميع , وكذلك ضبط من قتلوا عناصرها المسافرين والاقتصاص منهم , وذلك باعتبار ان تلك الاعمال مجرمة قانونا ويقع على الدولة مسئولية مواجهتها وانصاف ضحاياها , وبالطبع لم تلقى مطالبات الجماعة اذن صاغية من الدولة كون قوى النفوذ كانت تعمل على اعاقة استجابة الدولة هي ذاتها من يقف وراء تلك الاعمال ومن ينفذها هي الايادي الموالية لها .
كانت جماعة الحوثي تدرك سلفا ان الدولة لن تفيدها في شيء لسيطرة النافذين الخصوم على قدر كبير من قرارها وكانت تعي انها فقط تقيم الحجة بمطالبة الدولة تحمل مسئولياتها . و لكنها في ذات الوقت كانت تنشد قبليا مستندة على كون قطع الطرق وقتل المسافرين غير المقاتلين من اكبر العيوب في اعراف القبائل ( عيب اسود ) , وتلزم تلك الاعراف كل قبيلة منع حدوث ذلك في منطقتها وتحمل تبعات وقوعها قبليا , وبذلك تمكنت الجماعة من فتح الباب لبدء تصرفها تجاه تلك الاعمال المعيبة بأطلاق ايدي المنتمين لها في تلك المناطق لمواجهة تلك الاعمال مسنودة بعناصر من الجماعة قادمة من خارج القبيلة في مقابلة السند القادم من خارج القبيلة لأيادي النفوذ التي ارتكبت تلك الاعمال , بالإضافة الى ابناء القبائل المتمسكين بعرف القبيلة في منع وقوع تلك الاعمال في مناطقها .
في ذات الوقت ضمنت جماعة الحوثي حياد الجزء المتبقي من ابناء القبائل الذين تخلوا عن القيام بمسئولياتهم القبلية كأقصى خدمة يمكنهم تقديمها لقوى النفوذ , وهو الامر الذي اضعف ايادي النفوذ بقدر كبير, ووجدت نفسها مضطرة للاعتماد بدرجة رئيسية على غير القبيلة و بداية باستقدام العناصر المرتبطة ايدلوجيا بقوى النفوذ ووصولا الى دعمها من قبل قوى النفوذ بوحدات من الجيش الرسمي لازالت قادرة على تحريكها دون الحاجة لقرار رسمي بذلك .
منذ بداية هذا الصراع وحتى الان حصر الرئيس هادي دور الدولة في هذا الصراع على تشكيل لجان للوساطة تتولى التدخل وايجاد الحلول السلمية لكل مواجهة تحدث بين الطرفين وفي اي مكان وقعت , وهذا الامر جعل جماعة الحوثي هي الكاسب دائما سواء بحسمها للمواجهات لصالحها عسكريا كلما تعثر دور لجان الوساطة , او بتحقيق مرادها عن طريق لجان الوساطة كونها لا تريد اكثر من فتح الطرق وضبط الجناة وضمان حرية الفكر للجميع وهي مطالب لم تكن ايادي النفوذ تقدر على رفضها علنا كونها مطالب محقة .
الانتصارات التي صبت في صالح جماعة الحوثي في كل اماكن المواجهات استدعت من قوى النفوذ التحول الى الضغط على الرئيس هادي بقوة لتحريك قوات الجيش رسميا ضد الجماعة , و كانت قد سبقت ضغطها على الرئيس بشن حملة اعلامية كبيرة تصور فيها جماعة الحوثي بالساعية الى اسقاط العاصمة صنعاء وضرب الدولة والانقلاب على النظام الجمهوري وغير ذلك من المبررات التي نسجت اعلاميا ونفوذيا لتغيير الصورة الحقيقية للصراع بهدف انتزاع قرار الرئيس هادي بتدخل الجيش رسميا فيه , وهو القرار الذي لم تتمكن من انتزاعه منه حتى الان .
رفض الرئيس هادي حتى الان اتخاذ قرار بالدخول الرسمي للجيش في هذا الصراع وحصره لدور الدولة في لجان الوساطة كان مترتبا على دواع عدة , فدخول الجيش رسميا في هذا الصراع كان اول ما سيترتب عليه فشل مؤتمر الحوار الوطني الذي يمثّل فيه كلا الطرفين المتصارعين , والحوار الوطني يعتبره الرئيس هادي مهمته الاولى وانجاحه هو التحدي الحقيقي بالنسبة له , كما ان الرئيس هادي يدرك ان الزج بالجيش في هذه المواجهات قد يؤدي الى تفكك الجيش والى انهيار الدولة بالكامل , فالجيش لازال متباين الولاءات , كما لا قدرة للدولة على تحمل التكاليف التي سيفرضها تحريك الجيش , وان قرار كهذا في ظل وضع البلد المضطرب ووضع الدولة المرتبك سيفقد الرئيس قدرته الحالية لتصرف في الجيش وسينقل الجيش الى يد قوى النفوذ التي ستحركه تبعا لرغبتها خصوص وان تلك القوى قد حرّكت ما يدين لها بالولاء من وحداته دون ان تنتظر قرار الرئيس بذلك .
كما ان الرئيس كان يدرك التبعات القانونية التي ستلحقه اذا ما اتخذ قرار بتدخل الجيش في مواجهات لا يمكن باي حال من الاحوال وصفها " بالوطنية " , وانه فقط سينقل المسئولية الجنائية التي تتحملها الان قوى النفوذ لزجها بوحدات الجيش الموالية لها في هذا الصراع وذلك الى عاتقه هو , وهو الامر الذي دأب الرئيس هادي على التذكير به بتكرار نص المادة " 40 " من الدستور اليمني والتي تحظر استخدام الجيش لصالح فئة او حزب او جماعة او فرد وذلك على اسماع الجميع وفي اكثر من مناسبة , وصولا الى ارسالها من وزارة الدفاع الى " جوالات " بعض القادة العسكريين في الجيش .
بالإضافة الى ان الرئيس هادي كان يضع في اعتباره ان الدولة نتيجة لوضعها الحالي لم تقم باي دور تجاه الدعوات التي وجهتها جماعة الحوثي للدولة قبل الاصتدام مع من يقطعون الطرق ويقتلون عناصرها في غير قتال وبالتالي لن يكون قراره بتدخل الجيش موفقا اذا جاء لاحقا ضد الجماعة وهذا من جهة , ومن جهة اخرى ان جماعة الحوثي لم تتعرض لأي مؤسسة او مرفق للدولة او توقف اي موظف عام في كل اماكن الصراع , عدا في محافظة الجوف التي وقفت فيها السلطة المحلية موقفا غير محايدا من هذا الصراع .
من خلال الاعتبارات السابقة يمكننا فهم موقف الرئيس هادي في عدم اتخاذ القرار بتدخل الجيش في مختلف مراحل هذا الصراع وحتى الان . وبالطبع دون ان نغفل ان الهزائم المتتالية التي تتلاقها قوى النفوذ تساعد في ارخاء قبضتها على الدولة ومن ثم تكون الفرصة اكثر حرية لاتخاذ الرئيس قرارات لم يكن يقدر على اتخاذها وتلك القوى تتمتع بذات قوة نفوذها في الدولة وفي البلد .