يوماً بعد آخر تزداد الأسباب العميقة لضرورة الانتقال الفوري للنظام الفيدرالي في اليمن، وقد أشبع المتحدثون عن هذا النموذج الموضوع تبريراً وتفسيراً، من خلال التوقف أمام الأهمية الاقتصادية والإدارية والتنموية للنموذج الفيدرالي الاتحادي.. لكن الجديد الأكثر أهمية في هذا الجانب، يتمثَّل في الجانب الأمني الذي يتسرَّب يوماً عن آخر من يد الدولة، ليتحوَّل إلى لعبة قاتلة في أيدي المليشيات المسلحة، وصعاليك الشوارع، وقبائليي الأتاوات والابتزازات، الذين ما فتئوا يخطفون الأجانب، وها هم يضيفون اليمنيين إلى جانب المخطوفين، لتتحول البلاد إلى غابة يسود فيها أشاوس الصعلكة والإجرام.
ثم تأتي ثالثة الأثافي عبر تقاتل الميلشيات العصبوية القبلية، وانحداراتها الأيديولوجية، باسم الدين السياسي، ما يُشكل مغادرة جوهرية للوسطية الدينية اليمانية التاريخية، التي لا علاقة لها بسلفيي وحوثيي صعدة، ممن يتقاتلون وهماً وتعصباً، فيما تبدو الدولة على مسافة عجز بائن، مداه التسليم بواقع الحال، والاكتفاء بالوساطات التي تؤكد معنى غياب الدولة، وقبولها بلاعبين يُجافون منطق الدولة ونواميسها، وكأن المؤسسة تُباشر نوعاً من التنازل الحُر الذي لا تفسير له.
إذا كان النظام الاتحادي المقبول من الغالبية، يمثل نقطة ارتكاز مؤكدة لمعنى الدولة المُركَّبة، وهياكلها المتوازية مع استحقاقات المرحلة، وقدراتها فائقة السرعة في التنمية، فإن ذات الدولة الاتحادية هي الضامن الأكبر للأمن والسلم الاجتماعي، خاصة إذا عرفنا أن كل إقليم من أقاليم البلاد سيكون بوسعه اتخاذ التدابير الكفيلة بتحقيق السلم والاستقرار، دونما غلق للأبواب والنوافذ.. تفاعلاً مع بقية الأقاليم، وتحقيقاً لتكاملية العناصر الإنتاجية والاجتماعية والأمنية، على قاعدة الوحدة والتعدد.
تكمن الفكرة الجوهرية في النموذج الاتحادي الفيدرالي، في أصل الخصوصية الخاصة لكل بلد يختطُّ هذا الطريق، فالأنظمة الفيدرالية تتشابه في كل أنحاء العالم، من خلال ميزاتها الجوهرية المتمثلة في الوحدة والتنوع، لكنها تتميز بخصائص محلية في كل تجربة من التجارب، وبهذا المعنى تتَّسق الفيدراليات مع عناصر التاريخ والجغرافيا.. مع ثقافة المكان والزمان، دون مُجافاة للتفاعل الأفقي مع أقاليم الجوار الجغرافي، والعالم الكبير.
اليمن المعاصر مؤهلٌ تماماً لخوض هذه التجربة الاتحادية، التي ستؤتي ثماراً ناضجة بأسرع مما نتوقع، فالأصل في المعادلة يكمن في تنوع الأقاليم الجغرافية اليمنية، وميزاتها الاقتصادية النسبية، وثقافة العمل التاريخية الموروثة، وفقه الضرورات الذي كان وما زال يحكم طريقة اليمنيين في التعامل مع تحديات الأيام وتقلباتها، وكذا الحضور الكبير في المهاجر العربية والعالمية، مما يوفِّر غطاءً كبيراً لاحتياطيات مادية وبشرية وعلمية واسعة.
ينتشر اليمنيون في أربعة أرجاء المعمورة، بوصفهم أحد أكثر شعوب العالم قدرة على التكيُّف والترحُّل والتفاعل، حتى أن البيئة الثقافية والعلمية والمالية الدولية، تجد لها تواشجاً مؤكداً مع المهاجرين المنتشرين في هذه الأرجاء، من أندونيسيا شرقاً، مروراً بالصين والهند وفيتنام، حتى أوروبا والولايات المتحدة وكندا غرباً.. مروراً بكامل بلدان الخليج والجزيرة العربية، وحتى شرق إفريقيا وعمقها العربي والأفريكاني.
تلك الخارطة البشرية المهجريَّة اليمنية، كانت وما زالت تمثل رافداً كبيراً من روافد اقتصادها المالي المتوازن، رغم العواصف والتراجعات الداخلية غير المنكورة. وفي معرض حديثي مع بعض المصرفيين اليمنيين، وتساؤلاتي المحتارة حول قدرة العملة اليمنية على الصمود وسط القلاقل السياسية والمجتمعية.. قال لي أحد أكثر الرائين العارفين للمالية المصرفية، وبشكل قاطع مانع: إن السر يكمن في تحويلات المهاجرين اليمنيين، وليس في أي شيء آخر.
وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى مقومات الجغرافيا الاقتصادية الداخلية، التي تشتمل على سواحل تمتد على مدى 2500 كلم متر عامرة بالاقتصاديات البحرية، وتتوفَّر على 300 جزيرة مُحاطة ببيئات بحرية فريدة، وتمتد فيها سلسلة الجبال من الأعلى إلى السفح، ضمن منظومة بصرية بانورامية نادرة المثال، مشهداً وحياةً.
فالاقتصاد البيئى الجبلي في اليمن لا يتوقف عند حدود الزراعة بأنواعها، بل يشتمل على ثراء من مصفوفات إنتاج العسل، والنباتات الدوائية، والزهور العطرية التجارية، بالإضافة إلى الأحجار الكريمة، والمعادن النفيسة، التي ما زالت مطمورة في أنفاق الجبال ودهاليزها.. وعلى خط متصل نتوقَّف مع بيئة السهول التاريخية الحضارية، التي تمتد من حوض مأرب التاريخي، لتشمل محافظات شبوة وحضرموت والمهرة، وكذا امتداداتها الغربية والجنوبية، في أبين وعدن والتهائم، ولتتوج رؤوس بهائها الخُضري الزراعي الشامل، مع شواهق الجبال في تعز والبيضاء ومناخة وصنعاء وحجة وصعدة.
هذا التوصيف العابر لبيئة الجغرافيا الاقتصادية اليمنية، ينفتح على مزيد من التفاصيل الموشاة بمساحة قدرها 555 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة تعتمر بتنوُّع ميزاتها النسبية، ولا تخلو من أنماط اقتصاديات التعدين.. ابتداءً بالنفط فالغاز، وحتى الحديد والنحاس والذهب، تماماً كما هو الحال في بلدان الله الغنية. فالمفهوم العصري للتنمية ينطلق من حقيقة مطلقة، مفادها أن كل رقعة من يابسة أو بحر تحمل ميزة وقدرة على أن تسهم في النماء العام، وهي بهذا المعنى تمثل إضافة مؤكدة إذا ما توفَّر الشرط الاقتصادي والمجتمعي للتنمية.
من المعروف أن الوجود الاجتماعي للبشر يلعب دوراً حاسماً في وعيهم، وأن الحرية والكرامة لا تتحققان في بيئة الفقر والمظالم والرثاثة، ولهذا كانت التنمية وما زالت هي المخرج الأساس والسبيل المناسب لتحقيق الحرية بمفهومها الأكثر واقعية وشمولاً، لكن هذا المفهوم لا يمكنه أن يتحقق في ظل آليات الدولة البسيطة المركزية التي أرهقت العباد والبلاد، بل في ظل الدولة العصرية الاتحادية الفيدرالية ذات النمط الخاص. أصبحت هذه الضرورة اليوم ملحة وعاجلة، وذات صلة بالأمن العام أكثر من اي وقت مضى، وفي يقيني أن الأقاليم الافتراضية للدولة الاتحادية اليمنية، يمكنها تحقيق نجاحات جزئية تكون بمثابة المدخل والمقدمة للنجاحات العامة، ولا يجوز الحديث عن نموذج جديد للدولة في ظل استمرار دولة الغياب الجبري، المتراجعة أمام غلواء المُخربين من كل شاكلة وصنف.
على أنساق البيان السياسي المؤسسي اليوم، اتخاذ تدابير عاجلة لتحريك العجلة صوب تدوير الخيار الأفقي لدولة اتحادية تسابق الريح، فالوقت متاح لنجاحات جزئية، والبحث عن حلول شاملة في الأحوال اليمنية الراهنة، أشبه ما يكون بالبحث عن لمعة إبرة ضاعت بين حشائش الحقول.