في مقالة سابقة نشرتها تحت هذا العنوان وعلى صلة وثيقة بموضوع هذه المقالة كنت قد ختمتها بالحديث فيها عن أًم مريم بنت آل عمران التي ورد ذكرها في غير سورة من القران الكريم قائلاً عنها "بأنها لم تكن كأي إمرأة من نساء عصرها مشيراً الى منزلتها الدينية التي خصها وكرمها بها الله "كإمرأة " دون نساء عصرها وكثيراً من رجال قومها ، قبل ان يباغتني "احدهم " بسؤال بلاغي اراد من خلاله أن يثبت لي بطلان التفسير الذي أولتُ به معنى ومدلول هذه الاية الكريمة التي بيّنتْ " - كحكم إلهي - الفوارق الطبيعية والفطرية القائمة بين الانثى والذكر عندما وردت على لسان ام مريم في محكم تنزيله بقولها فيها لرب العالمين " إني وضعتها أُنثى وليس الذكر كالانثى " .
فيما كنت قد تحججت بهذه الاية للتأكيد على ضعف الانثى وقصورها الفطري ونقصها الطبيعي الملحوظ امام شخصية الذكر ،، من جانب القدرات العقلية والادوار والوظائف والمهام الاجتماعية الفيسولوجية ومركباتها الكيميائة والجنسية التي يتمتع بها كل جنس منهما عن الاخر وليس من جانب القيمة الانسانية التي ربما يتساويان فيها ،،إلا إنه اراد من وراء هذا السؤال الذي باغتني به ان يؤكد لي على بطلان صحة هذا الرأي او التفسير الذي تدل عليه الاية ومناسبتها زاعماً بأن العكس هو الصحيح وأن الانثى هي الافضل من الذكر محتكماً في هذا الزعم الى احدى قواعد البلاغة في اللغة العربية التي استشهد بها على ترجيح رأيه وسلامة منطقه في تفسيرها بهذا المعنى المغاير للحقيقه التي اشرت اليها من خلال تفسيري السابق لها ،، مدعياً بغير علم او برهان يمكن الاعتداد به على أن صواب حكمه بتفضيل الانثى على الذكر في هذه الاية إنما تقرره صور التشبيه التي انطبقت عليها هذه القاعدة البلاغية التي تنص على أن المشبه به يكون عادة في اللغة العربية افضل حالاً من المشبه واكبر منه ،، وبما ان الانثى في هذه الاية قد أخذت صورة المشبه به في حين اخذ الذكر صورة المشبه فهذا يعني من وجهة نظره وحسب تفسيره ان الانثى افضل من الذكر ،،
ولما لم يتسع المجال في المقال السابق للرد على هذا السؤال على نحو مقنع فقد ضمنته برد عابر ومقتضب لايزيد عن سطرين عليه قبل ان اختتمه على ان افرد له مقالاً خاصاً للرد عليه ،،
وها انذا قد خصصت هذا المقال لذلك وسابتدي في تناوله بعرض العبارة التي كنت قد انتهيت عندها قبل ان يبادر بطرح سؤاله المشار اليه عليّ في المقالة السابقة حيث قلت فيها إن " أم مريم لم تكن كأي إمرأة في عصرها ،، وهذه العبارة تأتي على نفس السياق وعلى نفس الوزن اللذان اتت عليهما تلك الاية من حيث صور ومواقع التشبيه التي تنطبق عليها القاعدة البلاغية التي فسرها بها على نحو ماجرى ،، حيث وضعتُ "ام مريم " فيها في موضع المشبه ووضعتُ " كأي إمراة " في موضع المشبه به دون ان يختل المعنى الذي تحمله او المدلول الذي رميت اليه منها ،،أي ان قيمة أُم مريم وحدها لم تقِل او تتناقص أو تفقد شيئاً من مقدارها أمام قيمة كل نساء عصرها رغم ان أُم مريم وردت في هذه العبارة في الموضع البلاغي والتشبيهي ذاته الذي ورد فيه " الذًكر"بتلك الاية ،، وبما معناه ان أُم مريم في هذه العبارة اخذت دور المشبه الذي اخذه الذكر في تلك الاية دون ان ينقص ذلك شيئاً يذكر من قدرها امام نساء عصرها اللائي اخذنَ في هذه العبارة نفس الصورة او الدور الذي اخذنه في تلك الاية امام الذكر دون ان يرفع ذلك شئ من قدرهن امام أُم مريم ،، اي ان أُم مريم قد حافظت على مكانتها الاعتبارية وقيمتها الدينية وافضليتها عنهن رغم ان اسمها ذُكِر في موضع الشبه في حين ان اسمهن الجمعي ذُكِر في موضع المشبه به منها في هذه العبارة دون ان يؤدي ذلك الى اي زيادة في قيمة اي واحدة منهن على كثرتهن في عصرها ،،
فكيف لرجل كهذا الرجل الذي طرح عليّ هذا السؤال ان يعتمد في دفاعه عن الانثى على منطق هزيل وقاصر كهذا ،،وكيف لتلك القاعدة البلاغية التي استدل بها على صوابية رأيه أن تنطبق على الذكر في تلك الاية ولا تنطبق على أُم مريم او غيرها في العبارة التي استشهدت بها هنا لدحض منطقه مع علمه في الوقت نفسه بأن علوم النحو والبلاغة واللغة العربية تخضع لشروط القرآن ومقتضيات بيانه في حين ان القران لا يخضع البتة لقواعدها إلا ما بني عليها او توائم معها من آياته ،،
وإذا كان في هذا المثل الذي ضربناه لكم هنا وحده ما يغني السائل عن الاستشهاد بسواه من الامثلة والحجج والبراهين الكثيرة التي تؤكد على صحة منطقنا وسلامة مذهبنا الذي ذهبنا فيه او اليه ويحقق الاكتفاء المطلوب لمن اراد الاستكفاء به لدحض حجة كل دعي يدعي ان المرأة افضل من الرجل او حتى مثله إلا إننا نملك اكثر من هذا المثل واكثر من هذا البرهان الذي سقناه لكم هنا لمحاججته وتفنيد دعواه الباطلة والرد عليه وإثبات الحقيقة التي لم يكن أصلاً بحاجة لمن يثبتها له لأن الواقع الذي نعيشه سوية مع المرأة كشركاء في هذه الحياة فيه ما يغنيه وامثاله عن الاستدلال بقاعدة نحوية او بلاغية من قواعد اللغة العربية لإنكاره وتكذيبه والتمرد عليه وبالتالي يعفينا من مضيعة الوقت ومشقة التفكير في الرد عليهم والكتابة اليهم من أجل ذلك ،،
وساضيف علاوة على ما عرضناه لهم ههنا بأن قاعدة التشبيه التي يتحججون بها لتكذيب الواقع وهم فيه ويعيشون تفاصيله لم تكن قاعدة للتفاضل بين المشبه والمشبه به ولا للتمايز بينهم بقدر ماهي قاعدة لتحقيق التماثل كصورة بلاغية لصورة ربما لم تتحق على ارض الواقع بينهم ،، واحياناً تدل على جوانب ووجوه الاختلاف بينهم اكثر مما تدل على تشابههم ،، واحياناً اخرى تنفي هذا التشابه ، وهو المعنى الذي حملته هذه الاية ،، إذ لم يكن المقصود منها إلا نفي التشابه بين الرجل والمرأة ،، ولكن دون تحديد لوجوه هذا الاختلاف بينهما ،،فالآية مسبوقة باداة من ادوات النفي والانكار " ليس "" وللحديث بقية ،،،