الانتقال الى الفيدرالية ونظام الأقاليم، يستدعي الحديث عن كلفته المادية، سيما في بلد شحيح الموارد كاليمن.. غير ان هذه الكلفة لا تتصل بالتحول الى المنظومة الجديدة قدر تعلقها بمتطلبات بناء دولة مؤسسية حديثة في بلد ظل طريقه اليها عشرات السنين.
وكأي منظومة جديدة بهياكل ومؤسسات جديدة تتسق ووظائفها المستحدثة، ينبغي لها توافر بنية مرفقية ملائمة ونفقات تشغيلية كافية، غير ان التكلفة الكبرى للانتقال الى نظام الاقاليم ستكون من نصيب المديريات أو المستويات الحكومية الأدنى من الأقاليم والولايات (المحافظات) باعتبار الاخيرة أضحت تحوز مباني لأجهزتها الحكومية ولا يصعب استحداث مباني ملحقة للهيئات التشريعية والقضائية في مراكز الأقاليم الستة، لقلة عددها .. في حين ان الكلفة المضافة من نفقات تشغيلية ومرتبات يمكن التغلب عليه بتقليص هياكل السلطة لتتلاءم وطبيعة الوظائف المسندة إليها، وتجاوز اختلالات الهيكلة الحالية التي تعاني تضخما لا مبرر له سوى خلق مناصب للوجاهات الاجتماعية وذوي النفوذ كما في الكم الهائل لوكلاء الوزارات والمحافظات اللذين يلتهمون قسطا وافرا من موازناتها.
الحال مغاير تماما عند الحديث عن المديريات، فكلفة التحول فيها ستكون باهظة، ودائما ما كانت كذلك.. فالأمر لا يتصل بالانتقال الى منظومة جديدة بل بتوفير متطلبات بناء دولة مؤسسية حديثة، ما انفكت غائبة منذ قيام الجمهورية قبل أزيد من خمسين عاما.. إلا انه مهما بلغت الكلفة فهي مبررة وذات جدوي، فالمديرية هي الركيزة الاساسية للتنمية المستدامة، ولا يمكن لها القيام بهكذا دور وهي تشهد نقصا في بنيتها المرفقية والمؤسسية وكادرها الوظيفي.. فيما لم نستطع خلال اربعة عشر عاما من الأخذ بنظام اللامركزية الادارية استكمال البنية المؤسسية لكثير من المديريات، وتوفير نفقات تشغيلية لها، فضلا عن أخرى رأسمالية ضرورة للتنمية. ولا تزال عديد مديريات بلا مباني حكومية ولا كادر وظيفي لتحصيل الموارد المالية اللازمة للتنمية، في حين أن النائية منها لا يتعدى حظها من الكادر مدير المديرية مع مرافقيه.. ورغم ان مسحا وظيفيا ومرفقيا شاملا قامت به وزارة الادارة المحلية منذ سنوات إلا ان مخرجاته ظلت حبيسة الأدراج ولما يؤتي ثماره بعد في اعادة توزيع الكادر الوظيفي بين المركز والمحليات، ليظل المركز يشهد تضخما وظيفيا متزايدا، في مقابل ترهل مقيت للأطراف.
التوقعات بتحول اليمن الى فيدرالية نموذجية في بضعة سنين لا تخلو من سذاجة مفرطة، فالبلد الذي لا تزال اغلب مديرياته تعيش هكذا اوضاعا بائسة ولا تنفك أغلب محافظاته تركن الى دعم مركزي يتناقص سنويا لاعتماده بدوره على النفط، ولا تقوى أجهزتها المحلية على تحسين تحصيل مواردها لنقص في كادرها او لأنها تذهب الى جيوب وجاهات ونافذين، استحالت الى ثقب اسود يلتهم بشراهة خيرات السواد الأعظم ويعمد الى تركيز الثروة والسلطة في البؤرة الضيقة للمركز المقدس... في احوال كهذه ربما استلزم الانتقال الكامل للفيدرالية سنينا عددا، فيما نتائجه المأمولة لن تتأتى دونما جهود مضاعفة لبناء قدرات الأقاليم خاصة على مستوي المديريات، وتحسين كفاءة أبنائها في ادارة مواردهم وتوظيفها في عملية التنمية.. ليتم الاكتفاء في المرحلة الأولى من عملية الانتقال باعتماد فيدرالية لاتماثلية تُنقل بمقتضاها الصلاحيات للأقاليم والمديريات بما يتلاءم وقدرتها على أداء المهام.. والأهم خلق علاقة زواج كاثولوكي لا فكاك منه بين الفيدرالية ومبادئ الحكم الرشيد القائمة على التقييم والمحاسبة والمساءلة، كأداة فعالة لتجفيف منابع الفساد وإنهاء تركز الثروة والسلطة لدى القلة الفاسدة.