الفرق بين مؤتمر أصدقاء اليمن الذي انعقد قبل أيام في لندن، والأول في المكان نفسه قبل حوالى ثمانية أعوام، أن الجديد ينعقد واليمن مهدّد بالفشل، في ظل سلطة انتقالية جيء بها للعبور نحو المستقبل الحر والكريم، استجابةً لمطالب اليمنيين وطموحاتهم بالتغيير، وإقامة حلمهم في الدولة الديموقراطية الحديثة .
المؤسف أن السلطة الانتقالية لم تنفّذ أيّاً من مهامها واستحقاقاتها المذكورة، في الوثيقة الانتقالية التي تنظّم عملها في الفترة الانتقالية المقدّرة بعامين، وذلك بعد مضيّ ثلاثة أشهر من انتهاء هذه المدة. ويقول قطاع واسع من شباب الثورة إن هذه السلطة خانت أحلامهم وتطلعاتهم، وتنكّرت لتضحيات رفاقهم الذين قضوا شهداء وجرحى في درب الكفاح السلمي .
يمكن لأيّ مراقب من بعيد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن السلطة الانتقالية تفتقد الرشد والمسوؤلية. فإلى هذه اللحظة، لم يتم التحقيق والمساءلة تجاه أي حالة فساد، ولم يتم استرداد أيٍّ من الأموال والممتلكات العامة المنهوبة، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات رسمية لكفالة الرشد والنزاهة في المؤسسات العامة . بالإضافة إلى ذلك، كل حالات التعيين في المناصب العامة تمّت بناءً على المحاصصة والمحسوبية، وقلما شذّت حالة واحدة شُغِل فيها منصب، أو وظيفة عامة، بناءً على الكفاءة والتنافس والفرص المتساوية. وفي هذا الإطار، لم يتم إنجاز شيء من الإجراءات المؤسساتية لكفالة تمتع المواطنين بالحقوق والحريات وضمان عدم انتهاكها، وكفالة عدم تكرار جرائم انتهاكات حقوق الإنسان في الحاضر والمستقبل، فضلاً عن معالجة حالات الانتهاكات الواسعة قبل الثورة وفي أثنائها .
وعوضاً عن بسط الدولة سيطرتها على المناطق المختلفة في البلاد، نرى نفوذ الميليشيات المسلحة يتوسّع، ويتراكم سلاحها ويزداد صراعها. يتقاتلون من أجل توسيع النفوذ، ولتحقيق أهداف سياسية، ويقتلون الناس ويشرّدونهم، ومعهم يقتلون ويشرّدون كل فرص اليمن في العبور نحو الاستقرار والاستقلال والحياة الحرة والكريمة. يحدث ذلك كله من دون تبعاتٍ تطال الميليشيات المسلحة ومَن يساندونها، من دون اتخاذ أي إجراءات تضع حداً للعنف، وتجفّف ينابيعه، وتحول دون حدوث الصراعات وتكرارها، وعدم فعل شيء لسحب الأسلحة، وتجريم امتلاكها خارج الدولة أو استخدامها، ومن دون أن تفعل السلطة الانتقالية شيئاً لبسط نفوذ الدولة، وإعادة هيبة الجيش والأمن، بل يحدث في ظل مباركة السلطة الانتقالية، بالصمت والتعامل معه أمراً واقعاً .
وقد تضمّنت الوثيقة الانتقالية، المعروفة بالآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، آلية توافقية محددة لإصدار قوانين مهمة تتطلّبها عملية بناء الدولة في الفترة الانتقالية، ولكن، لم يتم إصدار قانون واحد وفق تلك الآلية. الإنجاز الوحيد الذي تحقّق، ربما، هو عقد مؤتمر الحوار الوطني، وخرج بـ"مصفوفة" طويلة من المخرجات والقرارات يتعيّن إنجازها في المدة الاضافية الجديدة للفترة الانتقالية. وقد قمنا، نحن الشباب، بإحصاء شامل للاستحقاقات والمهام التي تم التوقيع عليها والاتفاق بشأن مهام على السلطة الانتقالية إنجازها، ثم وضعناها في حزَم ودفعات، لكي نطالب السلطة بتنفيذ ما تعهّدت به حسب الأولوية، ما دامت تنسى ما تعهدت به، ولا تجد مَن يذكّرها من الأطراف الشريكة، ولا من الرعاة الدوليين .
19طلباً ملحاً
قدمنا لهم، قبل ثلاثة أشهر، حزمة أولى من 19 مطلباً ملحاً، تضمنتها مخرجات الحوار كأولويات يجب على السلطة الانتقالية البدء بتنفيذها، مباشرة، بعد الحوار، وكلها تصب في مكافحة الفساد، وسحب أسلحة الميليشيات، وإكمال هيكلة الجيش والأمن وبسط نفوذ الدولة. وأصدرنا البيانات، وعقدنا المؤتمرات الصحافية، ونظّمنا المسيرات والاعتصامات الجماهيرية، لكن، بلا جدوى .
كانت الفكرة أن تُقدّم المطالب على شكل حزم ودفعات، كلما تم إنجاز حزمة، ننتقل للضغط من أجل إنجاز أخرى. مضت الشهور، وحزمتنا الأولى تنتظر التنفيذ، لكن، من دون أن يلوح في الأفق أمل أنها ستُنجز. وبعد ثلاثة أعوام من الثورة السلمية التي اندلعت لتُسقط نظام علي عبد الله صالح، وتُسقط معه نظام الفساد والرشاوى، نجد أنفسنا ودولتنا لا تزال تُدار بالأشخاص أنفسهم، وبالسياسات والممارسات الفاسدة والفاشلة، فيما اقتصرت خبرات الرعاة الدوليين ومساندتهم على الإشادة بالتجربة اليمنية الفريدة في الحوار، ومنح السلطة الانتقالية شهادة بالنزاهة في الممارسة، وأخرى بعبقرية الإنجاز .
الفرق أن السلطة الجديدة ترتكب جرائم الفساد وإساءة استغلال السلطة، وهي تستند إلى رعاية دولية ودعم دولي مخدوع وخادع؛ مخدوع بأن هناك في اليمن إصلاحات، وبأن تغييراً يحدث تلبية لطموحات الشعب اليمني، في حين أن الواقع يشهد أن لا شيء جوهرياً يحدث. وخادع، لأن مراقبين ومهتمين كثيرين في العالم يستمعون إلى شهادة الرعاة الدوليين وإلى تقاريرهم التي تتحدث عن التجربة المميّزة في اليمن، يقعون ضحايا تصديق تقارير من دون أن يمتحنوها بمزيد من البحث والتدقيق .
أعرف كيف أن رُهاب المساندة الدولية يضغط على كتمان الحقيقة، وكيف أن العالم لا يتوقع، أبداً، أن هناك سلطة ستحظى بكل هذا الدعم، وعقب ثورة شبابية سلمية أخلاقية قدمت أحلاماً وطموحات كثيرة، تنتظر تحقيقها بفارغ الصبر، فلا تفعل تلك السلطة شيئاً لتلبية تلك الطموحات، ولا تنجز شيئاً ممّا تعهدّت به.
ربما عليكم أن تعلموا الحقيقة
:
نحن أمام سلطةٍ انتقاليةٍ لا تمتلك إرادة سياسيةً بإنجاز التغيير، والعبور باليمن وشعبها نحو المستقبل، لم تلتزم بها كمهام واستحقاقات، ولم تلتزم بها كمدة زمنية محددة .
أطراف العملية الانتقالية، ومعهم الميليشيات المسلحة، عملوا، حتى الآن، على تدمير فرص اليمن التي جلبتها الثورة السلمية، للعبور باليمن إلى آفاق الحياة الحرة والكريمة .
وأجدني محتاجة، هنا، لتذكير رُعاة العملية الانتقالية في اليمن بالقول: تعهّدتم برعاية عمليةٍ انتقاليةٍ محددة المهام والاستحقاقات بالآلية التنفيذية، ثم بمخرجات مؤتمر الحوار، وتوعّدتم مَن يخرج عليها بالعقاب كمعيق للعملية الانتقالية، من دون أن تتعبوا أنفسكم في البحث والسؤال، هل أوفت السلطة بما تعهّدت به؟ هل قامت بواجبها وأدّت مهامها؟ أم أنكم جمعتم لليمن "بين عسرين"، سلطة لا تقوم بواجباتها، ورعاة دوليين يتوعّدون مَن يخرج للاحتجاج على أدائها بالعقاب، بتهمة إعاقة مسيرة الانتقال الديموقراطي.
أسئلة وإجابات غائبة
مَن منكم سأل أطراف السلطة الانتقالية، ما الذي تحقق، وما الذي تم إهماله وتجاوزه، وما الاستحقاقات والمهام الواردة في وثيقة مؤتمر الحوار الوطني الشامل؟ ما هي القوانين والتشريعات الحديثة والرشيدة التي تم استحداثها، بعد مضيّ المرحلة الانتقالية كاملة؟ ما المؤسسات التي تم استحداثها واستهدافها بالتطوير والتحديث؟ كم من حالات الفساد جرى ضبطها ومحاكمة مرتكبيها، كم من الأموال المنهوبة جرى استردادها؟ كم من حالات القتل والجرائم خارج القانون تم ضبطها واتخاذ الإجراءات اللازمة تجاهها؟ ما الذي فعلتموه على صعيد الإصلاح الاقتصادي، الاصلاح الضريبي، استرداد الممتلكات المنهوبة، إيقاف العبث، الشفافية وحق الحصول على المعلومة؟
تعهَّد الرُعاة الدوليون بتقديم الدعم الاقتصادي، وعمل تغيير وتطوير في الجانب الاقتصادي، لكي يواكب عملية التحوّل السياسي، ولم يقدم الرُعاة شيئاً يُذكر في هذه الجانب. لم يشهد اليمنيون التحسّن الملموس في الحياة الاقتصادية، لم نرَ إصلاحات اقتصادية جوهرية يختفي معها الفساد وتحمي الممتلكات العامة، وتكفل الرشد في إدارة الثروة العامة وتحصيلها وإنفاقها. لم يقدّم الرعاة أي شكل من أشكال الدعم، فلا دعم فنياً ولا لوجستياً، ولا منح وتمويلات كافية لتحقيق تغيير اقتصادي موازٍ ومتزامن مع التغيير السياسي المأمول والمنتظر .
ليست المشكلة في أن اليمن لا تمتلك إمكانات وفرصاً للنهوض والاستقرار، أو أن هناك معيقات وتحديات أكبر من السلطة الانتقالية وقدرتها على الانجاز، المشكلة الحقيقية تتمثّل في غياب الإرادة السياسية للإنجاز لدى هذه السلطة بكل مكوّناتها .
هناك حالات قليلة لمسؤولين امتلكوا إرادة التغيير، فأحدثوا تغييراً بشكل فارق في مؤسساتهم، منهم وزير الداخلية الجديد وقبله مدير أمن تعز، اللذين جرى تعيينهما قبل أشهر. كانت الأوضاع الأمنية في اليمن بشكل عام، وفي تعز بشكل خاص، قبل مجيئهما سيئة للغاية، حالات القتل والعدوان على الممتلكات والخدمات العامة تحدث يومياً، في حين كان الاثنان آخر مَن يعلم، وربما لولا الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ما علما عنها شيئاً .
لكن، هل هنا مبالغة في التشاؤم، وهل يليق بصاحبة نوبل للسلام، ابنة الربيع العربي، أن تتشاءم وتشعر بالإحباط؟
على العكس، لست متشائمة، ولا أشعر باليأس، بل أشعر بنشوة التحدي، وبالثقة على حل كل هذه المعضلات، لكنني أعلم أن لا سبيل لحل المعضلات قبل الاعتراف بها ومعرفتها كاملة الأوصاف والتفاصيل، ثم المضيّ في رحاب الرفاق الشباب السلميين، لنصنع حلم شعبنا، ونكمل ما بدأناه .
هل أنا أحول دون تدفق المساعدات؟ مَن قال إن مساعداتٍ ستتدفّق في ظل فسادٍ زكمت رائحته أنوف العالم، وبدل أن تبذل السلطة الانتقالية شيئاً لتحسين معايير الرشد، راحت تضاعف الفشل، وتراكم مزيداً من حالات المحسوبية والفساد في البلاد. ألم يتم التعهّد في الرياض بالمليارات، وقبلها، في لندن ونيويورك، في الفترة الانتقالية؛ وعود وتعهدات لم تجد طريقها إلى الخزينة اليمنية، المثقوبة من جهة، ولم تجد طريقة لسد الثقب الأسود العظيم .
أنا هنا أحول دون تسويق الزيف للعالم. لا أستطيع الصمت أمام فساد وقح ومستمر، وخذلان مقرف، ثم بعد ذلك، يُمنح الفاسدون، خاذلي طموحات شعوبهم، شهادة حسن جودة، وأخرى حسن سيرة وسلوك. هذا ليس أمراً عادلاً. هل أنا نادمة على الثورة، بالطبع لا.. أشعر بالفخر بها وبضرورتها، ولو عادت بي الأيام إلى تلك اللحظات، لاخترت الثورة مرة أخرى، ولكنت أشدّ إصراراً وشجاعةً في مواجهة العنف والقمع، والحثّ على التغيير السلمي والانخراط فيه .
شباب الربيع في اليمن، كما كل شعوب الربيع، خرجوا إلى الشوارع يهتفون: "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يكن يعنيهم اسم رئيس النظام كثيراً. في حقيقة الأمر، لم يكونوا يبحثون عن الانتقام، بقدر ما يبحثون عن تحقيق الحلم بغدٍ أفضل حر، وحياة كريمة في ظل نظام جديدٍ ورشيد. لم يكن يعنيهم أمر الرئيس، إلا من حيث أن الدرب إلى الانعتاق لمصاف الحرية يبدأ بسقوط الرئيس وعائلته ومساعديه، ويمر بتغيير مؤسسات حكمه، واستبدالها بأخرى رشيدة ونزيهة، ثم يذهبون، بعد ذلك، إلى الانتخابات المختلفة، لتداول السلطة على تلك المؤسسات الرشيدة .
اليوم، تحتشد الظروف، غير المواتية، والصعاب المدفوعة وغير المدفوعة، لتشكل جداراً سميكاً أمام طموحاتنا وأحلامنا في التغيير، لكن هذا الجدار، على الرغم من صلابته، سيتحطم أمام حلمنا النبيل، وسيتوارى خلف إرادتنا الصلبة، وسنعبر بشعبنا اليمني العظيم نحو المستقبل الحر والكريم، وسيفاخر بنا العالم كشعب مسالم عظيم، جدير بالاحترام والشراكة والثقة.