الغلو :هو الزيادة و مجاوزة الحد ، و قد جاء النهي الصريح عن الغلو في الدين في الكتاب والسنة ، قال الله عز و جل : (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم )) النساء :71 . و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه .
والتكفير :هو الحكم بالكفر ، والتكفير حق لله تعالى و لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، و هو ثابت بالكتاب والسنة . قال الله عز و جل : (( هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن )) ( التغابن : 2) .
و الكفر قد يكون أصلياً ككفر الوثنيين و أهل الكتاب ، و قد يكون طارئاً و هو الردة و ذلك أن المسلم قد يرتد كافراً بعد إسلامه قال الله عز و جل : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه )) ( المائدة : 54 ) .
فالتكفير من حيث الأصل حكم شرعي لا مناص للمسلم من الإيمان به والالتزام به ، و لكن تنزيل هذا الحكم الشرعي على واقعه إنما هو شأن العلماء الربانيين و القضاة والمفتين لاسيما تكفير المعين.
والتكفير نوعان :
تكفير مطلق : و هو إطلاق الكفر على الأقوال والأفعال والاعتقادات المكفرة المخرجة من ملة الإسلام فيقال : من قال كذا و كذا فقد كفر أو فهو كافر ، كأن يقال : من سب الله عز و جل فقد كفر و من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو كافر . و يقال من فعل كذا وكذا فهو كافر ، كأن يقال : من سجد للصنم فهو كافر ، و من ذبح لغير الله فهو كافر و هو ذلك .
و التكفير المطلق كثير في كتاب الله عز و جل و في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فمن ذلك في كتاب الله عز وجل قول الله تعالى : (( و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ( المائدة : 44) ، وقوله تبارك و تعالى : (( و من يتولهم منكم فإنه منهم )) ( المائدة : 51 ) .
وهذا النوع من التكفير هو من رحمة الله عز و جل ؛ لأنه رادع للخلق عن الوقوع في الكفر ، وسد مانع من الخروج عن الإسلام ؛ لذلك كان العلم به من العلم العام الذي ينبغي أن يشاع و أن يعرفه الخاصة والعامة والكبار والصغار فإن ذلك من النصح للخلق ومن حراسة الدين ، و حفظ المسلمين من الوقوع في أسباب الردة والعياذ بالله .
ولم يفهم هذه الحقيقة كثير من المثقفين اليوم ، فألقوا باللائمة على العلماء الذين يطلقون ، مثل تلك الإطلاقات ولم ينتبهوا إلى أنهم يستخدمون أسلوب القرآن في ذلك ، وأنه ليس من لازم ذلك الحكم بالكفر بمعناه الآخر .
و النوع الثاني : من نوعي التكفير هو تكفير المعين وهو الحكم على شخص معين بأنه كافر خارج عن ملة الإسلام ، وهذا بشروطه من عدل الله عز و جل وإقامة شرعه ، لذلك فإن هذا النوع من التكفير إنما هو من اختصاص القضاة وكبار المفتين . وهو باب خطير ؛ فإن تكفير المسلم إن لم يصح كفره هو وصف للإسلام بالكفر ؛لهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أيما رجل قال لأخيه :يا كافر فقد باء بها أحدهما ) رواه البخاري ومسلم . و قبل ذلك قال عز و جل في كتابه العزيز : (( و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا )) ( النساء : 94) .
فالخطأ بتكفير المسلم الذي لا يستحق التكفير جريمة عظيمة وورطة كبيرة ؛ بل الخطأ بترك تكفير من حقه التكفير أهون من الخطأ بتكفير من لا يستحق التكفير ؛ ذلك أن ترك تكفير المسلم هو بقاء على الأصل ، فقد ثبت إسلامه بيقين واليقين لا يزول بالشك . فلو تمسك باليقين الأول و لو بوجود ذرة شك لكانت حجة ظاهرة ، ولم يزل العلماء يقولون : من ثبت إسلامه بيقين لا يزول عنه إلا بيقين مثله ، و حسب الإنسان ذرات القلق و الشك التي يوجدها اختلاف العلماء في بعض المسائل ، و حسبه اختلاف حكم المفتين والقضاة فكيف إذا كان أئمة الشأن و معظم علماء الأمة في جهة عدم التكفير ؟ و إنما ذكرت هذا لأن الغلاة في التكفير يقولون : لا يجوز ترك تكفير المرتد كما لا يجوز تكفير المسلم وبينهما فرق ظاهر كما أوضحته ،
والغلو في التكفير يدخل على نوعي التفكير :
فالغلو في التكفير المطلق يكون باعتقاد أن بعض الأقوال والأفعال من المكفرات المخرجة من الملة و هي ليست كذلك :
فمن ذلك اعتقاد أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر خارج عن ملة الإسلام .
ومن ذلك اعتقاد أن من أطاع غيره في الحكم بغير ما أنزل فهو كافر و لو لم يكن معتقداً ولا مستحلاً .
و من ذلك التكفير بالاستحلال العملي لم يجاهر بالمعصية .
و من ذلك القول بأن تنظيم المعصية كفر مخرج من الملة .
و من ذلك القول بأن كل من أعان كفاراً على مسلم فقد كفر مطلقاً .
و من ذلك القول بأن الامتناع عن شريعة متواترة بمجرد ترك العمل كفر مخرج من الملة .
ومن ذلك أن الوظيفة المفصلية في دولة كافر كفر مخرج من الملة .
و غير ذلك من الاعتقادات والتأصيلات الفاسدة .
والذين أصلوا هذه الأصول هم في الحقيقة مفتتحو باب التكفير و التفجير ، و مفتتحوا باب الفتنة التي تعصف بالأمة اليوم .
وأما الغلو الذي يدخل في تكفير المعين فإنهم ينصبون أنفسهم قضاة على الناس ، ويجعلون من طائفتهم جماعة المسلمين التي من حاربها فقد حارب الإسلام ومن كان معها فهو مع الإسلام ، ثم يصدرون الأحكام و يهدرون الدماء ثم ينفذون أحكامهم على من قدروا عليه . وهذا غاية في الانحراف والفساد . فلو أن كل من عنت له نفسه أصدر أحكامه على الناس وقضى فيهم بما تمليه عليه آراؤه لما استقرت الحياة لماج الناس ووقع الهرج واختلط الحابل بالنابل .
ثم إن قاعدة تكفير المعين لابد فيها أولاً من ثبوت الحكم على المعين و ثبوت صدور القول المكفر أو الفعل المكفر ، وهذا لا يتأتى إلا بالقضاء . و لابد في تكفير المعين ثانياً من وجود شروط التكفير في المعين انتفاء الموانع من الجهل والخطأ والتأويل و نحو ذلك وكل ذلك لا يتأتى إلا بالقضاء الشرعي لإقامة الحجة ، فإن الإسلام إنما جاء لهداية البشر لا لإبادة البشر .
لكن الشيطان أوحى إلى هؤلاء الغلاة بما يتجاوزون به ذلك كله ، و بعدم استعمال قاعدة التكفير من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، حتى جعل قلوبهم بما أوحاه إليهم من نفثاته !!! مطمئنة لما تعتقده من تكفير و قتل دون استعمال لقاعدة التكفير ، ذلك أن الشيطان أوحى إليهم أن هؤلاء الناس من الحكام و جيوشهم وأمنهم ، إنما هم من الطوائف الممتنعة والطائفة الممتنعة لا يجب النظر في أفرادها للحكم عليهم بالكفر والقتل ، بل يحكم عليهم في الجملة دون نظر إلى ثبوت شروط و انتفاء موانع ، وعلى هذا الأساس فهم كفار مرتدون جملة وعلى الغيب ! الحاكم أصالة ، و من شد !!!! حكمه تبعاً .
والحقيقة أن هذه بدعة منكرة وسابقة خطيرة ، فكلام الأئمة في التفريق بين علية المقدور عليه وغير المقدور عليه إنما هو في العقوبة والضمان لا في إقامة الحجة ، فإذا أقيمت الحجة فرقوا بين المقدور عليه و غير المقدور عليه ,فالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا شك أنهم طائفة ممتنعة ، وإنما لم يكفروا لتأويلهم و مع ذلك فقد أقام عليهم الصحابة الحجة و أرسل إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم و رجع منهم من رجع ثم بعد ذلك قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم , فلابد إذاً من إقامة الحجة على الطائفة الممتنعة ؟
ثم إن الناس في المجتمعات الإسلامية اليوم ليسو بطائفة ممتنعة ، حتى الجيوش وإن كانوا أصحاب منعة فليسوا بطائفة ممتنعة بالمصطلح الفقهي . فالامتناع لابد أن يكون عن شريعة من الشرائع مع وجود المنعة وعدم القدرة على الوصول إلى الأفراد ، وأفراد الجيش والأمن اليوم يعيشون بين الناس ، والوصول إليهم سهل ميسور ، فهم متواجدون في مجتمعات الناس و في أسواقهم و في مساجدهم ، بل وليس امتناع الحاكم عن تطبيق بعض الأحكام هو مقصود الفقهاء بالامتناع عن الشريعة ، و إنما الامتناع برفض الإقرار ورفض القبول ورفض الالتزام بالواجب لا بمجرد ترك العمل والتطبيق ، ثم هذه القوات والجنود لا يشعرون بامتناع عن شريعة وقتال دون ذلك الامتناع ، فهم حين يدفعون عن الحاكم لا يدور بخلدهم امتناع عن شريعة ولا دفاع عن ممتنع عن شريعة كما هو حال مانعي الزكاة مثلاً ، وإنما يدفعون عن الحاكم لأنه رأس الدولة و الممثل الأول للنظام بصرف النظر عن مخالفات هذا الحاكم أو ذاك . فكيف يكون هؤلاء طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة . بل الحقيقة أن هؤلاء الغلاة أصلوا لأنفسهم أصولاً جعلتهم يلتقون مع الخوارج شاؤا أم أبوا .
و لعل من أخطر الأصول الفكرية التي تؤز الغلاة أزاً إلى التكفير ثم القتل والتفجير هو زعمهم أن تكفير المرتدين من الكفر بالطاغوت والبراءة من الكفر وذلك من أركان ( لا إله إلا الله ) وهو ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها ، وألف في ذلك بعض منظريهم رسالة ( ملة إبراهيم ) والحقيقة أن التكفير الذي هو من صميم التوحيد والبراءة التي هي ملة إبراهيم هي البراءة من الكفر من حيث هو كفر والتكفير للكفار الأصليين من الوثنيين وأهل الكتاب ومن كفره معلوم من الدين بالضرورة ، وأما المسلم الذي أصله الإسلام و قال أو فعل ما هو كفر فالحكم عليه مسألة فقهية تختلف فيها أنظار القضاة و المفتين ، فالحكم عليه بالردة من تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة فقد يرى أحد المفتين أو القضاة صراحة ما قال أو فعل هذا المعين ، و قد يرى بعضهم أن لهذا القائل أو الفاعل تأويلا أو عذراً يدفع عنه حكم والتكفير . فكيف يكون الحال حين يختلفون أيكون تكفيره من التوحيد عند هؤلاء و ليس من التوحيد عند هؤلاء ؟ ثم كيف يحكم من رآه كافراً - و تكفيره عزه من أصل التوحيد – على من لم يكفره ؟ أليس ينظر إليه على أنه مجتهد مخطئ ؟ فإذا كان الفريق المخطئ من القضاة والمفتين معذوراً فكيف بعوام الناس و آحادهم ؟ إن قول العلماء ( و من لم يكفر الكافر فهو كافر ) إنما يعنون به الكافر الأصلي و الكافر بالوصف وأما المرتد فمن لم يكفره له وجهة نظره و حسبه أنه متمسك بالأصل وهو الإسلام و هو اليقين محقق و حسبه أنه ولد من أبوين مسلمين فيقين إسلامه ليس فيه أدنى ذرة شك و لا ما هو دون ذلك .
و من الأصول الفكرية للغلو في التكفير القول بأن مسائل الحاكمية والموالاة لا عذر بالجهل فيها لأنها معلومة من الدين بالضرورة ؟
كيف و قد خالف الغلاة فيها كبار أئمة السلفية في هذا الزمان وخالفهم ألوف من العلماء والدعاة وطلبة العلم . فإما أن يكون الحق مع هؤلاء – وهذه هي الحقيقة – أو أن تكون المسألة من الخفاء والصعوبة بحيث جهلها هؤلاء فكيف تكون معلومة من الدين بالضرورة ؟
آن الأوان أن يراجع هؤلاء أنفسهم وأن يراجعوا أصولهم وأن يلتفت العلماء و الدعاة والمصلحون لنقض فكرهم فإن الفكر المنحرف هو الخطر الحقيقي على الأمة بما يجنيه من ويلات ولكن الفكر المنحرف ليس فكر الغلاة وحدهم ، بل فكر الجفاة كذلك ، فإن فكر الجفاة هو الذي ولد فكر الغلاة .
* عضو مجلس علماء أهل السنة بحضرموت وعضو اتحاد علماء ودعاة المحافظات الجنوبية وعضو هيئة علماء اليمن