يمضي الرئيس عبدربّه منصور هادي، رئيس الجمهورية بخطى ثابتة وواثقة لإرساء فجرٍ يمني جديد من خلال دأبه على تثبيت قيم وفكر ومفهوم الوحدة الوطنية في وجدان الناس بعيداً عمّا ألفوه عبر عقود من لغة مطّاطية فوقية وشعارات استهلاكية استعلائية إعلامية أثبتت الأيام والسنون أن مضارها فاقت بكثير منافعها، هذا إذا كانت لها أيّةُ منافع.
أنا واحدٌ من سواد اليمنيين الأعظم، أقرُّ أنها كانت قد اجتاحتني وبقوة حتّى العام 2012م شكوكٌ عميقة حول مسألة صمود الوحدة الوطنية؛ إلى درجة سلّمت فيها بفكرة أن هذه القيمة الأغلى والأقدس في حياتنا لن تصمد طويلاً أمام دعوات الانفصال التي صارت تلوح في الأفق وتقترب منّا بسرعة فائقة لتقضّ مضاجعنا وتهدّ نفوسنا وأحلامنا في وطن آمن وموحّد.
ونظراً لذلك الشعور والواقع الذي كان مُعاشاً على مستوى الشمال والجنوب، أقرُّ- أيضاً - من طرفي وكأيّ مواطن يمنيّ ينحدر من المحافظات الشمالية أنّني كنتُ على درجة عالية من الخوف على حياتي كلما تواجدت في المحافظات الجنوبية، وتحديداً ما بين الفترة من 2008 - 2012م، خاصة مع تزايد عمليات قتل وتهجير المواطنين الشماليين المستقرّين في الجنوب، الذين عانوا كثيراً من الاعتداءات وأعمال السلب والنهب والترويع لهم ولأفراد أُسرهم، وسط تراخٍ وعجز واضحين من قبل الدولة التي جعلت - حينذاك - قضية الوحدة قضية ثانوية، ليس هناك أي مانع من أن تذهب إلى عنوان مجهول، وأكثر من ذلك أنها جعلت الناس يحسّون مع مرور كل يوم أن الانفصال أمرٌ مُسلّمٌ به، وقد صار أقرب إلى الإنسان اليمني ممّا يكون، والمسألة مسألة وقت لا أكثر.
لا أريد أن أقول إن أحلام وآمال معظم الناس قبل وصول الرئيس «هادي» إلى السلطة وبداية ولايته كانت قد ماتت، وصار المواطنون شبه يائسين من إمكانية بقاء الوحدة والحفاظ عليها من خلال إدارة حكيمة تمتلك مشروعاً وطنياً حقيقياً وتطمينات وسياسات واقعية صادقة ومقبولة لدى الشارع الجنوبي، يمكن لها أن تحلّ محلّ سياسات وقرارات وسلوكيات العنف والسلاح والهمجية ومفردات التخوين والعمالة.
وحده الرئيس عبدربه منصور هادي من استطاع بحنكة نادرة المثال أن يُبدّد مخاوفنا ويحيل فكرة ومشاريع الانفصال إلى التاريخ وفق خطة علمية مدروسة ونابعة من الصميم الوطني والوعي السياسي الحقيقي الذي يستند إلى تجربة وخبرة وإحساس عالٍ بمعاناة المواطنين ومشاكلهم وأبعادها، وربما أن أول خطوة قام بها هي تقدير الذات المجروحة والشعور المحبط لدى الجنوبيين، وبالتالي احترام مطالبهم والاعتراف بمظالمهم الحقيقية والمشروعة، ولم يكن يوماً يُشكّك فيها أو يقول إن هناك مؤامرات والتباسات تحوم حولها ليعطي لنفسه وحكومته المبرّرات لترحيلها كما درجت عليه العادة.
لقد استوعب الرّجل من موقعه كقائد لكل اليمنيين معاناة المواطن الجنوبي، ومن ثمّ عمل على تطمينه وحل مشاكله والاستعداد لردّ مظالمه، منطلقاً من الحقيقة التي تقول: إذا كان القائد يريد بناء دولة ويحافظ على وحدة وينصف المظلومين ويضم أصواتهم إلى صوت الوطن ونداءات السلام والمستقبل؛ فيجب عليه أن تكون وسائله وأفكاره منسجمة مع إقامة دولة المساواة المرتكزة على العدالة والصدق والمواطنة الحقّة للجميع.
من منّا يستطيع الإنكار أن هناك نسبة كبيرة من اليمنيين كانت تترقّب قرار إعلان الانفصال في أية لحظة، ومن منّا يستطيع أن ينكر أنها وُضِعتْ الكثير من الرهانات المدروسة والموجّهة في عدم مقدرة الرئيس على حل القضية الجنوبية وقد تزامن معها زرع المثبّطات والعراقيل في طريق الرّجُل كي تُضعف جهوده ومساعيه في إسقاط مشروع الانفصال وكبح جماحه وعنفوانه الذي كان متصاعداً في النفوس والعقول كغبار البراكين النشطة..؟!.
ولعلّ هذا الكلام يقودنا إلى تساؤل مشروع: هل تعلمون من هي القوى التي شكّكت وحاولت تسويق عدم مقدرة الرّئيس في إيجاد حل وصيغة توافقية مقنعة تتسم بالديمومة لملف القضية الجنوبية الشائك والبالغ التعقيد..؟!.
وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن للمراقب أن يستنتج وببساطة إجابة مقنعة لا يخطؤها المنطق، وهي تلك التي تقول: إنها نفسُ القوى التي خلقت العديد من بؤر الصراع في الشمال، وشكّكت - أيضاً - بمقدرته في حلّها ووضع حدٍّ للحروب المعلنة والخفيّة في غير مكان.
وعلينا ألا ننسى أبداً الضرورة الموضوعية في عقد المقارنة أو الإشارة الضرورية للفهم بين تعقيدات وصعوبة القضية الجنوبية والقضية الشمالية، وفي هذا السياق نقطع جازمين أن هناك بوناً شاسعاً جدّاً بينهما وفوارق ومسافات لا حدود لها؛ الأمر الذي يجعلنا نعترفُ أن القضية الجنوبية كانت تاريخاً من العقود المأساوية والمظالم والتدخُّلات الخارجية والداخلية والواقع المؤلم والسياسة الغبية التي مُورِستْ وجعلت المشهد والحياة فيه بالفعل متوترين وقلقين ومشحونين بكمّ هائلٍ من الديناميت السياسي والسلوكي المعزّز بالفساد ولغة الاستعلاء والتجاهل.
وهذا المشهد الضبابي والصادم كان حلّه بحاجة إلى قائد من عيار الرئيس عبدربه منصور هادي الذي أثبت حقّاً أنه قادر على ملامسة الجرح والاقتراب الفكري والنفسي والوجداني من الناس وهمومهم ومشاكلهم الحقيقة، رئيس أثبت أنه قائد يؤمن برسالة وطنية وأخلاقية وإنسانية وتنويرية؛ وربما أن هذا ما جعل ويجعل الكثيرين من الأعداء قبل الأصدقاء يعترفون له أنه رجل المرحلة الذي استطاع أن يدهشنا ويعكس توقعاتنا ويفشل الرهانات الخاسرة التي راهنت على عدم مقدرته أو امتلاكه أدوات حل القضية الجنوبية وتعقيداتها والقضية الشمالية وتداخلاتها.
قبل الختام بقي أن أضيف وأقول: هناك أمرٌ آخر أعتقد أن طرحه يليق بصفة الإنصاف وقيمتها بين الناس، وهو أن الرئيس عبدربه منصور هادي، وهو الرجل الذي جاء إلى السلطة في أصعب مرحلة وظرف يمر به اليمن ربما خلال الـ «500» سنة الأخيرة؛ استوعب بل طبّق - والقضية الجنوبية أنموذجاً - قولاً وعملاً، معنى ومبنى، مفهوم أبعاد الحكم الرشيد الذي يتمثّل في التأسيس لمرحلة جديدة من ثقافة القانون وسيادته، والشفافية والاستجابة ومشاركة أكبر قدر ممكن من الناس في القرار، وما يتعلّق بذلك من قبيل الاستماع إليهم ومشاورتهم، إلى جانب الإنصاف والفاعلية والكفاءة والرؤية وصدق المقصد ونُبله، وهذه كلها يبدو أنّه آمن بها، بل عمل بها بشكل أو بآخر؛ على الأقل فيما يخصُّ القضية الجنوبية التي تُعدُّ أمُّ القضايا وأخطرها، ومفتاح الحلول لمختلف مشاكلنا اليمنية وتعقيداتها.