من خصائص الباطل بكل أنواعه وأشكاله وتوجهاته وأقنعته أنه ينتفش بالقوة المادية التي يحوزها وتوفرت له لأسباب شتى.. ويزخر التاريخ بأمثلة لا حصر لها عن الباطل المنتفش بالقوة والسلاح والنار والعدد في مواجهة الحق.. الذي قد يكون أحيانا أعزل من السلاح.. أو يكون أضعف في العدة والعدد.. أو يكون حريصا على السلم وحقن الدماء؛ وخاصة إن طرفي الصراع (أي الحق والباطل) من وطن واحد وملة واحدة! وفي كل حالات الضعف والقلة والحرص على حقن الدماء التي قد يكون عليها الحق؛ ينتفش الباطل اغترارا بقوته المادية، وكثرة عدده، وفي ميزان قيمه وهوان دماء الناس عليه، وتتلبسه حالة إبليسية تجعله يظن أن الدنيا حيزت له، وأن لا شيء يقف أمام زحفه لتحقيق أحلامه وأهدافه ولو على حساب الحياة الإنسانية البريئة! وأينما نقلب النظر اليوم فيمكن أن نلاحظ تجليات هذا الباطل المنتفش بالقوة، والكثرة، والاستهانة بدماء البشر.. وفي فلسطين المحتلة نجد المثال الأكثر استمرارا منذ أكثر من ستين عاما ملأها الصهاينة دما وقتلا وإجراما وهدما لمقومات حياة الفلسطينيين.. وهم في كل أعمالهم الإجرامية كانوا متنفشين بالقوة متناسين أنهم شبق أن قدموا أنفسهم للعالم بانهم ضحية مظلومية تاريخية حاقت بهم في ألمانيا النازية ومن قبل في بلدان أوربية عاملتهم بنفس منطق الانتفاش بالقوة والحديد والنار.. وهم بدلا من أن يجعلهم تاريخهم – عندما كانوا اقلية مستضعفة- مع الاضطهاد أكثر عدلا وتسامحا ورحمة بالآخرين إذا بهم يصيرون عندما امتلكوا أسباب القوة المادية والمالية أسوأ أنموذج للإجرام والحقد على الحياة، وأقذر القتلة الطغاة.. ومع من؟ مع أبناء الجغرافيا الحضارية الإسلامية والعربية التي أقرت بإنسانيتهم، ووفرت لها الحماية، ومنحتهم حريتهم الدينية كاملة في أزمان كانوا يعاملون فيها كالحيوانات المريضة التي لا تستحق سوى القتل! وفي زمن اضطهادهم وتشريدهم ونفيهم كانت أبواب العالم الإسلامي مفتوحة هم يلجأون إليه ليعيشوا فيه بأمان! وفي اليمن.. انتفاش آخر للباطل! يجسد الحوثة الإرهابيون نسخة يمنية من انتفاش الباطل المغتر بقوته المادية والمالية التي تجعله ندا لدولة تمر في ظروف معقدة وصعبة.. والحال المؤسف أنهم ينسخون ممارسات الصهاينة (هل لأن الطرفين أقلية لها مشروع عنصري للحكم؟) في تعاملهم مع الآخرين وبدقة غريبة.. فالذين أساءوا إليهم، وحاربوهم وقالوا عنهم ما قيل في الضالين والمجرمين صاروا اليوم أقرب الناس إليهم، وبل ويقاتلون معهم، ويسخرون لهم وسائل الكيد الإعلامي للتغطية على جرائمهم، ولممارسة أعمال التفجير للمساج ومدارس القرآن ومنازل المواطنين.. متناسين أنهم كانوا (مثل الصهاينة) أصحاب دعوة مظلومية واضطهاد مذهبي لحق بهم كما يقولون.. وبدلا من أن يجعلهم ذلك أكثر إنصافا للآخرين، ورحمة بالأبرياء والعزل، وحرصا على التوافق والتآلف إذا بهم يجسدون صورة دامية من الإجرام، والقتل الممنهج، والتدمير المجنون لمقومات الحياة بما فيها المساجد، ومدارس القرآن/ وممتلكات المواطنين! وكل ذلك يحدث رغم أن الدولة والأطراف السياسية الفاعلة قبلت انضمام الحوثة إلى الحظيرة الوطنية التي تقبل الجميع ولا تقصي أحدا.. وتعامل الجميع مع الحوثة بواقعية رغم علمهم أن الذي ينخرط في العملية السياسية لا يجوز أن يظل صاحب جيش مدعوم خارجيا، ومليشيات مدججة بالسلاح؛ فضلا عن هيمنتهم على كيان جغرافي شبه مستقل عن الدولة، وعلى أمل أن مخرجات الحوار الوطني سوف تطمئن الجميع بأن عهد الإقصاء قد ولى، وأن أي مشاكل جديدة يمكن بالتفاهم والحوار أن تجد لها حلولا سليمة وسلمية! في الحالتين الصهيونية والحوثية غلبت خصائص المشروع العنصري الإجرامي، وانتفاشة الباطل على دعاوى المظلومية والاضطهاد المزعوم.. فهم يعلمون أن ظهورهم المنتفش بالقوة المادية يحتاج إلى هذه العمليات الإجرامية لتخويف الناس والمعارضين، وإرهابهم ودفعهم إلى إخلاء الساحة لهم ليقيموا سلطتهم المتمردة الإقصائية التي لا تقبل منافسا ولا مزاحما ولا متحفظا ولا معارضا! ولذلك لم تنفع مع الصهاينة كل تنازلات منظمة التحرير والدول العربية لإقناعهم بقبول السلام على علاته.. وكذلك لم تنفع الحوثة كل ما قدم إليهم ليقتنعوا أن اليمن للجميع، وأن طرفا مهما كانت قوته وانتفاشة باطله قادرا على إقصاء الآخرين، وفرض رؤاه ومواقفه عليهم!