رحلة طويلة هي التي قطعها الاقتصاد الوطني حتى وصل الى الحال الذي هو عليه من التردي و المراوحة الغير مستقرة على شفير انهيار اقتصادي كامل , وحال الاقتصاد هذا لا ينكره احد وان كان هناك خلاف محدود حول الاسباب واختلاف كبير حول المعالجات .
اليمن كمادة اقتصادية ليس بالضعيف او المحدود بحيث يمكن تبرير حال الاقتصاد الوطني الذي يراوح فيه منذ سنوات طوال بضعف و محدودية الموارد , فما يتوفر للبلد من الموارد الاقتصادية هو كثير ومتنوع , و من المفترض ان يعيش البلد حالة اقتصادية مستقرة على الاقل ان لم يكن حالة اقتصادية متنامية وبوتيرة جيدة .
ثروة نفطية ليست بالقليلة , ثروة معدنية كبيرة , ثروة سمكية وبحرية واسعة , ثروة سياحية ثريّة , ثروة زراعية متنوعة ووافرة , ثروة انسانية كبيرة وفتية .. هذا هو التنوع للثروات المباشرة التي تتوفر للبلد , ومع ذلك يعيش البلد حالة من الفقر وسوء التغذية و تردي الخدمات و محدودية الفرص وتوسع البطالة والهجرة الداخلية والخارجية والكثير غير ذلك من المشكلات والويلات ذات العلاقة بالوضع الاقتصادي فيه .
وقع البلد على مدى العقود الماضية تحت سطوة قوى نفوذ ادارته بصورة تجمع بين الفشل والافشال المتعمد , واتسمت بأقصى صور العبث والنهب و الفساد و الاهمال , وهذه القوى لايزال الاقتصاد الوطني بيدها بصورة جوهرية حتى اليوم , وخلال هذه العقود اضاعت هذه القوى على الوطن فرصة الاستفادة المفترضة له من موارده المتاحة , ووجهت عملية استثمار كل موارد البلد ومصالحة في اتجاه نفوذي يزيد من ثروات و مصالح تلك القوى ومتنفذيها , وبعيدا عن الاتجاه الوطني الذي يرفد الدولة وينمّي المجتمع .
اصبح الاقتصاد الوطني في ضل تولى مراكز النفوذ هذه فريسة لأوسع حالة فساد تشهدها البلد عبر تاريخها , واوسع حالة فساد مقارنة بالدول التى في مستواها وحتى مقارنة بدول هي في مستوى ادنى منها بكثير . نُهب المال العام بصورة غير مسبوقة , نُهبت الثروات والمصالح الوطنية المشغّلة بصورة جوهرية , نُفرت رؤوس الاموال الخارجية من الاستثمار في البلد , وحٌوربت ونٌهبت رؤوس الاموال الوطنية الحكومية منها وغير الحكومية . ووجد البلد نفسه في ضل دولة فاشلة ومجتمع " فقير " يتصدران قوائم الدول الفاشلة والفقيرة .
الحديث عن الاصلاحات في البلد هو ايضا حديث تلوكه سلطة العبث والنهب والفساد على مدى عقود , لكنه حديث لم يجاوز حناجرها ومنابر اعلامها , ومثّل ذرا للرماد في العيون حتى لا ينتفض المجتمع في وجه هذه السلطة , بينما الواقع كان ايغالا في العبث والفساد والنهب والتعطيل . ومنذ وقت مبكر وجدت السلطة نفسها غير قادرة على تمويل انشطتها كيما تستمر " كدولة " , وبدأت باختلاق الذرائع لفرض الجرع على المجتمع الذي كان يزداد فقرا وهي تزداد قسوة في الاقتطاع من دخله مرة بعد مرة , ووصولا الى الجرعة الفاقرة الاخيرة التي تريد حكومة الوفاق ان تفرضها على المواطنين الذين يعيش اغلبهم حالة يرثى لها اساسا .
بعيدا عن شرعية فرض الجرع وقانونيتها وجدواها واقتصاديتها , حقيقة الجرع هي توفير موارد اضافية وجديدة لموازنة الدولة , وبذلك فالدولة بفرضها للجرع تموّل الفساد والنهب والعبث بأموال جديده اضافية كلما استنفذ المتنفذون والفاسدون الاموال المتوفرة للموازنة قبل كل جرعة , فالجميع يعرف والدولة في مقدمة من يعرفون ان الفساد والعبث يبتلع ما يقارب نصف موازنة الدولة بشكل مباشر , وعندما تفرض الدولة موارد جديدة واضافية متمثلة في الجرع التي يتحملها المواطنون المطحونون دون إيقاف العبث والفساد العريض في الدولة فأنها بذلك تموّل الفساد رسميا على حسابهم , ولكنها لا ولن تحل مشكلة الموازنة او تنقذ الاقتصاد الوطني .
على ما سبق نحن لسنا بلدا فقيرا , فلنا من الموارد ما يكفي لان نكون في مستوى معيشي جيد , ولكننا مجتمع يتم افقاره عمدا ومن قبل سلطته ولصالحها , اولا بالفساد و بنهب وسوء ادارة الموارد والمصالح الوطنية , وثانيا بتمويل الفساد والفاسدين بفرض الجرع المتتالية التي تزيد من تردي المطحونين في المجتمع الذي ثلثاه تحت خط " الافقار " .