اخرج الحوثي عن السياق، وانكشف كليّاً. التبريرات البدائية التي تقول إن الحوثي سيبيع الموقف الدولي لأتباعه بحسبانه مقاتلاً ضد الهيمنة الأميركية هي تبريرات تهين أتباعه. وفقاً لهذه التبريرات الطفولية فإلى الخلف من الحوثي توجد مجموعات بشرية مسلّحة يمكنه أن يقنعها بأي فكرة. إذ هي مجاميع من البشر بلا عقل، ولا خيال، وبمقدور قائدها أن يشكّل دماغها الكلّي طبقاً لما سيطرأ. يتحدثون، بدم بارد، عن فاشية شاملة لم تطوّع الحياة وحسب، بل العقل والخيال. هذه التبريرات، وهذا الخطاب، تضع مسؤولية أخلاقية قانونية وأخلاقية علينا جميعاً: أن نعمل كل ما بوسعنا لتحرير أتباع الحوثي من هيمنة الحوثي، ذلك أنه صادر عقولهم ثم حوّلهم إلى مجرد أكتاف لا تصلح سوى لنصب البنادق.
لكن الكوميديا السوداء ـ ذلك النوع الذي يدفعك للضحك، ثم البكاء ـ هي تلك التي تقول إن الحوثي غير معني بالمجتمع الدولي، فهو لا يملك رقم حساب بنكي يمكن تعقّبه. حسناً، فهو إذن مجرّد رجل مطارد في الكهوف لأنه قدم من خارج "زمن البنوك" فطرده هذا الزمن. ليكُن الشخص عبد الملك الحوثي غير معني بالمجتمع الدولي. الجماعة التي لا تأبه للمجتمع الدولي هي جماعة مارقة، لا تصلح للاندماج مع هذا المجتمع. أي لا يمكنها أن تقدم حلولاً للمشاكل المركّبة للمجتمع المحلي، وهي في مجملها مشاكل ذات طبيعة اقتصادية لا يمكن حلها سوى بمزيد من إعادة اليمن إلى المجال الدولي ودمجها في الاقتصاد الحديث والسياسة الصالحة. لاـ اكتراث الحوثي بالعالم ليس امتيازاً، بل فاجعة.
تضعنا الفاجعة في حدودها المادية الصارمة: نحن بإزاء جماعة تصبو إلى مزيد من العزلة الدولية لمجتمعنا، والمزيد من الصراع الداخلي. الأمر لا يتعلق بالحساب البنكي بل بقدرة أي سياسي محلّي على تخيل مكان بلده في مجرّة الحضارة المعاصرة، وابتكار نماذج للنجاة تنتمي إلى المستقبل. لا تتلخص الكوميتراجيديا في عدم قدرة المجتمع الدولي على الوصول إلى كهف عبد الملك، بل في فشل عبد الملك في الخروج من الكهف. التسامح الوحيد الذي أنجزه هذا الرجل مع العالم هو قدرته على تجنّب قدر ما من الأخطاء النحوية. خارج مدارات اللغة الحزينة فشل عبد الملك في إقناع المجتمع المحلّي، كذلك المجتمع العالمي، بمشروعه.
في العام 2014 لا يمكن لرجل عاقل أن يفكر حتى بالتعامل مع جماعة تستخدم كلمة "الموت" في شعارها. يتمنى الحوثي لو أنه استطاع تغيير الشعار الفاشي حتى يتمكن من المناورة بصورة أفضل. لكنه يخشى من فقدان مصداقيته لدى أنصاره. ضحي الحوثي بمصداقيته لدى العالم الحديث مقابل تعزيزها لدى جماعته التي درّبها على الموت والتوحّش حتى أصبح من الصعب عليها أن تعيش خارج عملية الموت. في سبيل ذلك، واستجابة آلية للنفس المتوحشة التي تسكن الجماعة، أطلق عليهم الحوثي لقب المجاهدين. لقد منح وحشيتهم اسماً إلهياً، وربطهم مباشرة بالخالق حتى يصير بمقدورهم أن يتجاوزوا ذلك الإحساس الإنساني العميق بالحزن لمنظر الضحية. إرادة الله، هذا هو السر الذي سرّبه الحوثي لجماعته ووقع هو شخصياً ضحيته. لن يستطيع مغادرة الجماعة المتوحّشة لأنها آلته الوحيدة، سيبقى على تخوم الحضارة المعاصرة ينادي بالموت للجميع حتى ينفَقَ كدببة الشمال.
قضم الحوثي جزء كبيراً من البلد، وبدا أنها كانت لقمة أكبر من حجم فمه. سيتختنق بها. حاصر صنعاء فسقط في الحصار. بيان مجلس الأمن ليس مادة للتسلية. فليس لدى الدول الكبرى وقتاً كافياً للعبث مع فتى أحمق في واحدة من أفشل عشر دول في العالم. حتى بوتين لم يجرؤ على السخرية من خصومه الدوليين كما يفعل المنغولي الصغير في جبال صعدة.
يمكن القول بثقة إن عبد الملك الحوثي هو الرجل صاحب أسوأ سمعة في اليمن. لكنه يعتقد أن سوء سمعته مردّه الإعلام المضلل. يحتاج الحوثي، أكثر من غيره، لأي شهادة حسن سيرة وسلوك. يؤذيه الأمر كثيراً. فليس من الجيّد للمسيرة القرآنية أن توصف بأنها آلة موت، وعجلة جرائم. أما سليل النبي فلا بد أنه موجوع وخائف. فقبل أسبوع واحد من الآن قال إن بعض دول مجلس الأمن لا تنظر إليه بوصفه خارجاً عن القانون. بريطانيا فقط هي من تفعل. امتدح روسيا والصين ضمنياً وعلي صالح علانية بالطريقة ذاتها. عندما قلنا إن إنسان الكهف لا يصلح سوى للحركة ما بين الكهف والكوخ وصف كلامنا بالتعالي. إذ ليس من الدقّة أن تصف رجلاً بالأحمق إذا كان يخلط بين الصين وصالح فيجاملهما بنفس الطريقة، ويتوقع استجاباتهما أيضاً بنفس الطريقة.
بيان مجلس الأمن قال أشياء كثيرة ومعقّدة كلها ليست في مصلحة جماعة الحوثي. لكن الحوثي استفاد أمراً وحيداً: لقد تأكد، ربما، أن الصين ليست صالح، وأن روسيا ليست ياسر اليماني.
انتهى الدرس يا غبي.
تأخر مجلس الأمن كثيراً. طبيعة عمل المنظمة الدولية، فلسفياً وبيروقراطياً، تجبرها على التمهّل والمناورة. تعطي الفرص والوقت الكافي لأنها مجبرة، بحكم وضعها، على التعامل مع كل التشكيلات الموجودة في أي بلد. الحوثي قادم من غبار التاريخ، أو من زمن "ما قبل شق الطرقات" بتعبير أستاذ العلوم السياسية فيصل الحذيفي. ليس لحركته لوغو سوى الجملة التي تنادي بالموت للمسيحية واليهودية. أي لأصحاب الكتاب، بتعبير الأصوليين. أما الذين ليس لديهم "كتاب سماوي" كالهند والصين فلا يدري أحد في أي حلقة من حلقات جحيمه سيضعهم الحوثي.
خارطة الداخل يقسمها الحوثي على طريقته. سألني شقيقي عيدروس: من يقصد الحوثي باسم الإشارة "هُم" الذي يورده في كل جملة. قلت له حتى الحوثي نفسه لا يعرف عمن يتحدث. خرج من الكتب الصفراء كأنه تنين دبّت الحياة في عظامه بعد ملايين السنين من موته. نظر إلى اليمنيين. ثم نظر إلى العالم. قال إن ما يجري في العالم هو بسبب تخلي "الأمة" عن الولاية. هكذا شرح الحوثي مشاكل الكوكب، بهذه الجاهزية والمجانية النادرة. شعرنا، كيمنيين، بالفزع فغضب. قال "إنها إرادة الله". زاوج بين نفسه والإمامة وإرادة الله في خطاباته علانية. لأنه قادم من خارج دالة الزمن فهو يتحدث بطريقة بدائية للغاية. يشعر بالحيرة عندما نقول له إنك لا يمكن أن تكون جادّاً، فالعاقل لا يتحدث هكذا. أما العالم المتحضر فعندما نظر إلى الحوثي كان كأنه يتأمل جزيرة حديثة الاكتشاف.
انتهى الدرس يا غبي.
دعونا نختصر بيان مجلس الأمن: في الجوف يعتدي الحوثي على الحكومة، في عمران اجتاح الحوثي الحكومة ومعسكراتها، في صنعاء يريد أن يحل محل سلطات الدولة، وفي المجمل: فإن أعمال عبد الملك الحوثي وأبو علي الحاكم تسببت في زعزعة الاستقرار وتهدف إلى تقويض عملية الانتقال السلمي. هذه الجملة الطويلة تلخّص، بالكلمات، بيان المنظمة الدولية.
عودة إلى الوراء: في مؤتمر المنامة للأمن، قبل خمسة أعوام، قال وزير الدفاع الأميركي إن دولته لم تعثر على أدلة تثبت تورط إيران في دعم الحوثيين. موقف أميركا، كما بقية الدول بما في ذلك روسيا والصين، راهناً يقول صراحة إن الأدلة أصبحت فائضة عن الحاجة. جاء تحذير المجلس لدوله الأعضاء من التدخل في شؤون اليمن ضمن هذا السياق.
جرى أن أعلى منظمة كوكبية أكّدت مخاوفنا. قالت إن الحوثي ليس سوى "بروكسي" أو حصان طروادة تستخدمه قوة دولية كبيرة ذات مخطط كبير. هذه القوة، كما يشير البيان، دفعت به أخيراً إلى حصار صنعاء.
انتهى الدرس يا غبي.
البيان قبل الأخير تعامل مع الحوثي كثور أسباني. ناوره بالإشارة الحمراء دون أن يصطدم معه. قال إن "الدوائر" التي تقع تحت سيطرته يمكنها أن تساهم في تعزيز العملية الانتخابية والسياسية، أي في الاستقرار. الحوثي يعاني من قصور حاد في تخيّل العالم. حتى إن صالح نفسه غضب قبل يومين، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام المحلية، من إشارة الحوثي إلى حلفائه. لا يدرك الحوثي الطريقة التي تعمل بها المنظمة الدولية. تخيّل صنعاء بلداً بلا شعب. قرر أن يتعامل معها بالفكرة نفسها التي نفذها في عمران: الهيمنة على التخوم، ثم حصار المدينة، والإجهاز عليها دفعة واحدة.
يبدو أن إيران سئمت من صعدة. لدى إيران ما يكفي من الجبال والصحاري، ومن الدراويش. صعدة، بالنسبة لإيران، ورقة محترقة كلّياً. حتى إن بيان مجلس الأمن الأخير لم يشر إليها. كذلك يبدو كل الخطاب السياسي والإعلامي المحلي: يتجاهل صعدة كلّياً. تصبو إيران إلى الأوراق الثمينة. فهي تعتقد، بطريقة ما، إن السعودية استطاعت محاصرتها أخيراً في العراق وسوريا. تلكؤ أميركا في مواجهة داعش أصاب إيران بالفزع. كان أوباما، كما في حواره الأخير مع توماس فريدمان، واضحاً "لن تكون أميركا مجرّد قوات جوية لشيعة العراق. عليهم أن ينظروا إلى داعش ليعرفوا الخطأ الفادح الذي ارتكبوه.". سيكون من الأفضل، من الآن، أن تتجه اللجان الرئاسية إلى السفارة الإيرانية. فعبد الملك لا يملك قراره الكلّي.
قال هادي في لقاء أخير قبل أيام إن جماعة الحوثي لم تلتزم باتفاقية واحدة منذ 2011. جاءت هذه الشهادة من قبل المسؤول الأول في البلد بعد فترة طويلة من المناورة والتلكؤ. لقد فقد الفيل أعصابه أخيراً، فقد أمله. أما الحوثي فكان ردّه: المجتمع الدولي لا يهمنا. لدينا، إذن، صورة جويّة واضحة للحوثي: حركة بلا مرجعية أخلاقية، لا تحترم اتفاقاتها الداخلية، ولا تأبه للنظام الدولي. إذا وضعنا هذه الصورة إلى الخلفية من الحوثي بينما نحن نستمع إلى خطاباته حول "الإسراع في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني" ستداهمنا رغبة في الضحك، كما لو كنّا أمام تلميذ يردد كذبات مكشوفة. لكن، وما إن نتخيل طابور الدبابات التي تقف خلفه، حتى يداهمنا الاشمئزاز ثم الفزع.
بعد بيان مجلس الأمن وزّع الحوثي الحلوى في صعدة. هكذا تتحدث كتيبة البائسين من حوارييه، أولئك الذين غسلوا رجلي الديك لزمن كما لو كانوا يجهزونه للذبح.
انتهى الدرس يا غبي. وزّع الحلوى في صعدة. أنت توزّع حلواك في صعدة منذ سنين طويلة. مطلع التسعينات قال سكان صعدة لرئيس البرلمان، في زيارته للمدينة، إنه لا وجود للجمهورية، هناك فقط ثلاث أسر تهيمن على كل شيء. من بين تلك الأسر الثلاث كانت أسرة الحوثي.
انتهى الدرس يا غبي.
قبل سقوط عمران تحسنت علاقة الحوثي بالسعودية. قال السفير السعودي لإعلاميين من الخاصة: السعودية لا ترى الحوثي عدوّاً. سقطت عمران فجاء موفد الملك. قال لهادي إن السعودية تشعر بأن الأمور تتجه إلى الأسوأ. حاول الحوثي ترميم الانهيار الطارئ فكان الوقت قد تأخر كثيراً. دفعته إيران لتسخين الجبهة في صنعاء ـ بتعبير رئيس التحرير الشرق الأوسط السابق ـ لتعزيز أوراقها في العراق والشام، كما دفعته السعودية قبل ذلك لتسخين الجبهة "على حواف" مدينة عمران لمعاقبة الإخوان. خسر الحوثي كل ما أنجزه على صعيد التواصل مع العالم، وخسر حلفه القذر مع السعودية.
انتهى الدرس يا غبي.
عاد الحوثي مرة أخرى، وكلّياً، إلى وضعه المادي الحقيقي: ليس جماعة سياسية، بل ميليشيا. لا تملك الميليشيا أي حق أخلاقي في أن تتحدث عن القضايا الداخلية ذات الأرضية السياسية والاقتصادية قبل أن تلقي سلاحها وتعترف أولاً بحق الدولة في احتكار سلطة القهر. يعتبر احتكار الدولة آلة القهر، القوة، أهم شروط وجودها. الجماعات التي تنازعها هذا الحق، أي الجماعات الميليشوية، هي جيوب تحت ـ دولة. لا يوجد أي قانون، ولا منطق فلسفي، يتسامح مع وجود جيوب مسلّحة داخل الدولة. بموازاة ذلك تقع على الدولة، الدولة التي هي أكثر من إسم، مسؤولية صارمة في أن تعمل بشراسة لنزع كل سلاح غير خاضع للقانون، أي للسلطات الأمنية والعسكرية.