آفه خطيره تنخر في بنيان المجتمع فكم أغلقت بيوت وكم فرقت بين إخوان وكم وكم وكم
فلا يخفى ما للسان من خطر عظيم وشأوٍ كبير، وما له من آفات لا تكاد تُحْصَى كثرةً، بل إن الوشاية من أخطر آفات اللسان وأجلها ضررًا على الأفراد والمجتمعات، فالحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والوشاية التي منبعها الحسد جمعت كلَّ خلق رذيل: فهي السعاية بالكذب، وهي النميمة، وهي الغِيبة، وهي البهتان، وهي الفسق، وهي اللمز، وهي الخديعة، وهي الطعن في الأعراض، ومن آثارها شيوع النمَّامين والكاذبين في المجتمع بمفاسدهم الخلُقية والاجتماعية، وهذا مدعاة لافتقاد الأمن الأسري، وهي نوعٌ من قتل الثقة بين أفراد المجتمع، وهذه زعزعةٌ في الأمن الشخصي، وفي الوشاية ونقل الكلام عن الآخرين افتقادٌ لأمن الأمة وتصدُّع للتلاحم والتكاتف،
فهذا الداء أخطر فتكًا من الأسلحة البيولوجية، لما تسببه من عداوات وتباغض وتناحر وقطيعة؛ بل وتقاتل بين الأقارب والإخوان في بعض الأحيان، وللأسف أن دائرة هذا الداء أخذة بالاتساع والانتشار، وكل هذا لمرض القلوب وظلمتها وتربع الحقد والحسد والضغينة فيها والغيرة المذمومة، وبعدها عن الدين القويم وكتاب ربنا العزيز، وإلا لو كانت غير ذلك لما توسعت دائرة الوشاية داخل المجتمعات وكانوا وقافين عند قول الحق – سبحانه وتعالى – : ( ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم ).
ولما قبله المجتمع وساروا خلفه وصدقوا الواشي، قال – جل في علاه – : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ولم يستسلموا للشيطان وتحقيق رغباته والانصياع لأوامره وتحقيق مأربه .
فمتى نقلنا كلامًا لا أساس له من الصحة للآخرين، بقصد إلحاق الضرر بهم فإننا نكون هنا واشين، وكذلك عندما نسمح لأنفسنا أن نستقبل هذه الوشاية فإننا عند ذلك نكون شركاء في هذه الجريمة البشعة التي حذرنا ربنا – عز وجل – منها ومن الوقوع فيها .
ومن المؤسف أن هناك من امتهن الوشاية وأبدع فيها حتى صارت عمله الرسمي وفنه الذي يستمتع به وعلمه الذي ينشره حتى أصيب المجتمع والأمة بفيروسات الوشاية والنميمة والغيبة كل هذا منبثق من دهاليز البغض والحقد والحسد والفساد بكل أنواعه من أصحاب القلوب المريضة والضمائر المنافقة والنفوس النتنة، الذين يسعون لقمع كل مظاهر الحياة السعيدة وقتل الطموح ووائد الإبداع وقمع التفوق وإطفاء شموع الخير والعطاء في الأمة .
إن هؤلاء الوشاة لن ينالوا من أفعالهم إلا خيبة الرجاء وكومة تراب يُحثى في وجوههم وهم يدبرون من خزي ما قاموا به من عمل مخزيٍ مشين وسلوك منحرف معوج ونظرة ضيقة لا تتجاوز أنوفهم .
لأن المجتمعات والأمم لن تقبل بهم ولا بأفعالهم الدنيئة التي تدمر كل مقومات الحياة، وتربك مسيرة التقدم والتواصل والتلاحم والترابط، وتقذف بالأمة بغياهب التخلف والتقهقر بسبب تلك الفيروسات الوشاية القاتلة .
كثيرة هي الوقائع التي يعيشها العالم العربي في الآونة الأخيرة التي يهيمن عليها التضليل الإعلامي في ظل التعتيم الذي يمارس على الحقيقة بسبب وجود أيادي خفية تحاول العبث بالمصالح الوطنية وتهديد مقومات الدولة والمس بالرموز السيادية لخدمة أجندات جهات سياسية واقليمية ودولية لها طموحات شخصية وانتهازية وبسط نفوذها وسيطرتها.
الوشاية سلاح يستخدمه العاجز عن الحجة، لنيل مطالبه بحق أو باطل، وهي السعي من طرف لإيقاع بطرف آخر والوشاية تجعل من وُشيَ يحمل على المُوشى به، لصالح الموشِي، لاسيما إذا كانت تلك الوشاية تحاك لدى حاكم البلاد، ضد إنسان عادي ومن يقوم بها مقرب من ذلك الحاكم، أضف إلى ذلك إذا كان الطرف الآخر فرد عادي
دلالة الوشاية في القرآن الكريم:
لم يرد في القرآن الكريم الجذر اللغوي للفظ الوشاية، وإنما جاءت آيات قرآنية لها صلة أو علاقة بمصطلح الوشاية، من ذلك:
1- قوله - تعالى -: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
قال الرازي: "كونه همازًا وهو العيَّاب الطعَّان، قال المبرد: الذي يهمز الناس؛ أي: يذكرهم بالمكروه... كونه مشاء بنميم؛ أي: يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم".
2- قوله - تعالى -: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1].
قال الرازي بعد أن ذكر سبعة أقوال في تفسيرها: "وأعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب".
3- قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: .
قال الرازي في "تفسيره": "ما كانت خيانتهما؟ نقول: نفاقهما وإخفاؤهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط كانت تدلُّ على نزول ضيف إبراهيم، ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور، وعن ابن عباس: ما بغت امرأة نبيٍّ قط".
4- قوله - تعالى -: ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ [المسد: 4].
قال الرازي في "تفسيره": "وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهًا... وثانيها: أنها كانت تمشي بالنميمة، يقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحل الحطب بينهم؛ أي: يُوقِد بينهم بالنائرة...".
5- قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
سورة الحجرات فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي إما مع الله، أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهم الفاسقون، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرًا عندهم أو غائبًا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها: يتعلق بجانب الله.
وثانيها: بجانب الرسول.
وثالثها: بجانب الفُسَّاق.
ورابعها: بالمؤمن الحاضر.
وخامسها: بالمؤمن الغائب.
فذكرهم الله - تعالى - في هذه السورة خمس مرات ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... ﴾ [الحجرات: 1]، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله؛ لأنها لا تُعلَم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2]؛ لبيان وجوب احترام النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]؛ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيَّن ذلك عند تفسير قوله: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9].
وقال رابعًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... ﴾ [الحجرات: 11]، وقال: ﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: 11]؛ لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وقال: ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُوا ﴾، وقال: ﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾؛ لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرًا يتأذَّى، وهو في غاية الحسن من الترتيب، فإن قيل: لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة: الابتداء بالله ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق؟ نقول: قدَّم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلَّ ما كان أشد نفورًا للصدور، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتل، ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال فقال: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾.
6- قوله - تعالى -: ﴿ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].
قال البغوي: "اختلفوا فيمَن نزلت هذه الآية... أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبُّوا أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا... قال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار؛ يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا بأهل العلم".
وقال ابن كثير: "يعني بذلك: المرائين المتكثِّرين بما لم يعطوا.
ومن أوضح نماذج الوشاية وسوء عاقبتها على الواشي أنه كان رجلٌ يغشى بعض الملوك؛ أي: يدخل عليه، فيقوم بحذاء الملك؛ أي: في مقابلته، فيقول: أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام من الملك والكلام بين يديه، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك زعم يقول: إن الملك أبخر - وهو الذي فسد ريح فمه - فقال له الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك إذا أخذ مقامه، فإنه إذا نادمك يضع يده على أنفه لئلاَّ يشمَّ ريح البخر، فقال له: انصرف حتى انظر صحة ذلك، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل المذكور إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال على عادته قوله: أيها الملك أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فقال له الملك: ادنُ مني، فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانًا إلا قد صدق في قوله، وكان الملك لا يكتب بخطِّه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتابًا بخطِّه إلى عامل من عمَّاله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحشُ جلده تبنًا وابعث به إليَّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: خطَّ الملك لي بصلة، فقال: هبْه منِّي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنًا وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فتعجَّب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان واستوهبه منِّي فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أنني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعامًا فيه ثوم، فكرهت أن تشمَّه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسيء إساءته
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: سعى رجلان بمؤمن آل فرعون إليه، وقالا: إن فلانًا لا يقول إنك ربه، فأحضره فرعون وقال للساعيين: مَن ربكما، فقال: أنت، وقال للمؤمن: مَن ربك؟ فقال: ربي ربهما، فقال: سعيتما برجل على ديني لأقتله، لأقتلكما، وأمر بهما فقتلا، فذلك قول الله - عز وجل -: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45]
الأسباب الباعثة على الوشاية:
الحقد والغضب الكامن في قلب الواشي:
الحقد هو الانطواء على العداوة والبغضاء... فالحقد ثمرة الغضب ونتيجته.
والغضب إذا استمرَّ المرء في كظمه لعجزه عن التشفِّي بالمغضوب عليه في الحال، رجع إلى الباطن واحتقن واحتبس فصار حقدًا.
وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصَّغار وخسَّة الطبيعة، أن يرسب الغلَّ في أعماق النفس فلا يخرج منها، بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثيرٌ من أولئك الذي يحتبس الغلَّ في أفئدتهم يتلمَّسون متنفَّسًا له في وجوه مَن يقع معهم، فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا... وجمهور الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكفَّ أخرى، ومن قديمٍ أحسَّ الناس، حتى في جاهليتهم أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق، وأن ذوي المروءات يتنزَّهون عنه، قال عنترة:
لاَ يَحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ
وَلاَ يَنَالُ العُلاَ مَنْ طَبْعُهُ الغَضَبُ
الشائعات أحد أسباب الوشاية:
وأيضًا لا يفوتنا أن من أسباب الوشاية المدمِّرة ظهور الشائعات وانتشارها في المجمع حتى تفتَّ في عضده، فالشائعات هي تلك الأقاويل والأخبار التي يتناقلها كثيرٌ من الناس جهلاً أو بقصد الإرجاف وإخافة الآمِنِين، بغضِّ النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة.
ولقد ابتُلِي فئام من المجتمع بتلقُّف الروايات وافتعال الأحاديث في هذا الزمان، ولشكٍّ لافتٍ للانتباه مع الزيادات عليها والتلميع لها؛ لتكون أقوى أثرًا وأكثر فاعلية، متجاوزين في ذلك حال الكهَّان الذين يتلقون عن الشياطين قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا تأمَّل الإنسان لحال هؤلاء المشيعين المذيعين مرضى القلوب، وجد أنهم أبعد الناس عن الإيمان والتقوى ظاهرًا وباطنًا
أسباب الشائعات:
أولاً: الهوى:
فصاحبه دائمًا يعمل على تحسين ما هو عليه، والدعوة إليه بكلِّ وسيلة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وردِّ كلِّ ما يخالف هواه، وانتقاده وتشويه والصد عنه، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23]، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، كما قال - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50]، ولهذا كان مَن خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعبَّاد يُجعَل من أهل الأهواء، كما كان السلف يسمُّونهم: أهل الأهواء، وذلك أن كل مَن لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم.
ومَن نصب شخصًا كائنًا مَن كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل - فهو من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعًا"، ا. هـ[114].
ثانيًا: الجهل:
فبعض أبناء المجتمع يأخذ بهذه المفتريات والمختَلَقات، وينشرها بين أهله وأصدقائه وغيرهم على أنها حقائق مسلَّمة ثابتة لا تقبل الجدل، دون مراعاة ونظر لعواقبها الوخيمة وأضرارها الخطيرة، فليس له همٌّ إلا أن يلوك لسانه هنا وهناك وكأنه مكلَّف بذلك ولا يتمُّ دينه إلا به، وهؤلاء غالبًا ما يكونون مغتربين بما هم عليه، أو مغرَّرًا بهم من قِبَل أصحاب الهوى والشهوة والشبهة الذين اتَّخذوهم طريقًا وسبيلاً ليس فقط لنشر الشائعات، بل لكلِّ أمر يخدم أهدافهم ومصالحهم.
ثالثًا: النفاق:
يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الأحزاب: 60]، وهو مرض خطير وشرٌّ مستطير، عانت منه الأمة الإسلامية أشدَّ المعاناة، وذاقت بسببه الويلات، وما من فتنة ولا شر إلا كان للمنافقين اليد الأولى والطولى في إشعالها ونشرها، وتولِّي كبرها منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وما حادثة الإفك ببعيدة عن ذهن كلِّ مسلم.
والمنافقون حالهم ومآلهم معروف من الكتاب والسنة، وقد وصفهم الله - سبحانه - بأنهم هم العدوُّ، وحذَّر رسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم؛ وذلك لأنهم يُظهِرون الإسلام ويبطنون الكفر، يبدون الصلاح والتقوى والإخلاص ويكتمون العداء والحقد والحسد والبغضاء - عياذًا بالله - وحقدهم على الإسلام والمسلمين وبُغضهم لهما جعلهم يتلبَّسون بهذه الصفة التي استحقُّوا بها أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار.
وبِناءً على ذلك فإنهم لا يتورَّعون عن سلوك أيِّ طريق، ولا يتركون أيَّ وسيلة من أجل الوصول إلى ما يصْبون إليه: من هدم للإسلام وقضاء على المسلمين، إشاعة، أو إذاعة، إرجافًا أو إخافة، كذبًا أو بهتانًا، مع ما يلازم ذلك من تتبُّع للعورات، وكشف للأستار، رائدهم في ذلك تلك القاعدة الخبيثة: (الغاية تبرِّر الوسيلة).
رابعًا: مرض القلب:
الذي يُصاب به ناقصو العقول، وضعيفو الإيمان، سفهاء الأحلام، قليلو العلم، حتى يتمكَّن منهم، ويتغلغل في نفوسهم، وتتشرَّبه أفكارهم وأذهانهم، فتصبح الغيبة والنميمة وإشاعة الفتنة، وتصدير الأخبار وتوريدها على ما هي عليه من علاَّت وسوء ضرر - عادتَهم وديدنهم وخلاقهم وشأنهم كلَّه، فلا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح لهم ضمير، ولا يقرُّ لهم قرار إلا بتولِّي كبر هذه المحرمات بل الكبائر، معللين لأقوالهم وأفعالهم ومدلِّلين بحجج واهية ساقطة متردِّية متهافتة، مع افتخارهم واعتزازهم بذلك، وظهور نشوة قصد الخير والإصلاح عليهم، وكأنهم أتوا بما لم تأتِ به الأوائل، نسأل الله السلامة والعافية، وهم فعلاً جاؤوا بما لم تأتِ به الأوائل من الجبن وزرع الشر والفساد في المجتمع.
خامسًا: محبة الإرجاف وإخافة الناس:
وهذه أيضًا من صفات المنافقين وأساليبهم، فنجد المصابين بذلك يعملون بما أتوا من جهد على نشر كلِّ ما من شأنه إحداث القلق والرُّعب في نفوس الآمنين صغارًا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا، محقِّقين بهذا الأسلوب رغبات شخصية ذاتية منبعها الشهوة والتشفِّي في إيذاء الآخَرين، وإعطاء أنفسهم المكانة الخاصة، والمنزلة المتميِّزة في هذا المجتمع أو ذاك، إضافة إلى ما يقومون به من خدمة للأعداء البارزين والمتستِّرين.
سادسًا: الفراغ المقرون بالشباب والغني:
يقول الناظم:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَهْ
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ
ويلحظ أن أغلب مَن يتناقلون الشائعات أو يتحدثونها تتحقَّق فيهم هذه الدوافع الثلاثة القوية والمؤثِّرة.
فالشاب إذا لم يوجَّه التوجيه الصحيح المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه السلف الصالح، ويربَّى تربية قائمة عليها، فإنه سيكون محلاًّ ومكانًا ووعاء لكل أمر سيِّئ ماديًّا كان أو فكريًّا؛ فيجد فيه الأعداء أرضية خصبة وطريقًا قويًّا مؤثرًا لخدمة أهدافهم، وتحقيق مآربهم، دون وازع أو رادع.
ثم إن الشائعات بأسبابها ومسبباتها من أقوى العوامل التي تخلُّ بالأمن المادي والمعنوي والفكري، يؤيِّد ذلك ما هو موجود في "بروتوكولات حكماء صهيون"، حيث إنها تضمَّنت بين جنَبَاتها النصَّ على القيام بإحداث الشوشرة والشائعة والضجة حول كلِّ ما يريد اليهود الخلاص منه أو تغييره.
والمتأمِّل في واقع الأمم يرى هذا عيانًا بيانًا لا يحتاج إلى دليل، فليحذر كلُّ مسلم من ذلك، وليكن ذكيًّا فطنًا منطلقًا من أصول صحيحة وقواعد ثابتة في التعامل مع كلِّ حادثة صغيرة أو كبيرة
الولاء الوطني ليس بضاعة تباع أو تشترى. إنه ثقافة وسلوك يتربى عليه الشرفاء ويحافظ عليه الأوفياء ويصونه الأمناء الذين يرفعون بكل فخر وعزة أعلام أوطانهم ويضحون بالغالي والنفيس ليعيش الجميع في أمن وأمان ويضمنوا للبلاد وشعبها مستقبلا مستقرا ناميا واعدا بالخير والعطاء.
كاتب وصحفي من اليمن وباحث في شؤون الارهاب الشارقة