طويل متعرِّج كأفعى، هذا هو الطريق الذي من المُقرَّر أن يخرج من طهران لينتهي في المقدس. «الطريق إلى القدس يمر عبر صنعاء» هذه المرة انحدر بعيداً جهة الجنوب، مخلِّفاً القدس وراءه.
بعد ثورته، عام 1979 رفع الراحل الخميني شعاره الشهير: «الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء»، لتندلع حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران للوصول إلى كربلاء، التي وصلها الإيرانيون بمساعدة «الشيطان الأكبر»، بعد أكثر من ثلاثين سنة من رفعهم الشعار الذي كان هدفه حينها بغداد.
وقبل أيام صرَّح علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي بأن الطريق إلى القدس يمرُّعبر اليمـــن. مثير هذا التصريح الذي تسمعه، فتشعر برغبة في الضحك، ليس على الإيرانيين، ولكن على بعض الإعلام العربي الذي لا يزال يهتف لحائك السجاد، الذي يحوك الشعارات بالطريقة نفسها، التي يحوك بها سجاده المليء بالزخارف التي تخلب الأبصار.
فقد عبَّر أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى الإيراني عن فرحته وارتياحه بسبب الانتصارات الأخيرة لجماعة «أنصار الله» الحوثية في اليمن. وقال خامنئي في لقائه مع وفد من الحوثيين زار طهران مساء السبت الماضي: «نــــبارك ونهنـــئ لكم لأن جماعة الحوثي تمكَّنت من رفع علم الثورة الإسلامية في اليمن». مؤكداً أن « طريق تحرير فلسطين يمر عبر اليمن».
لم يَفُت ولايتي ـ بالطبع – أن يشير إلى أوجه التشابه بين حزبه في لبنان «حزب الله»، وجماعته في اليمن، «أنصار الله». والمدهش أنه حسب الطريقة الإيرانية، تسمي إيران ما هو لها باسم «الله»، حتى لا يطمع فيه غيرها، ولكي تعطي لنفسها مكانة المقدَّس أيضاً، فحزبها في لبنان هو حزب «الله»، وجماعتها في اليمن هم أنصار «الله»، وثأرها اسمه ثأر «الله»، حتى رجال دينها، هم آيات «الله»، في محاولات من النظام إلى التماهي مع المقدس في أمور سياسية خالصة.
ما علينا.. دعونا نعود إلى حكاية «الطريق إلى القدس»، أو إلى حكاية «القدس» نفسها، إذ أعلن الخميني آخر جمعة من كل رمضان يوماً للقدس، وسماه «يوم القدس العالمي»، وقد حصد به دعماً جماهيريا عربياً حينها، إلى درجة أن بعض المتدينين جداً من «عرب إيران» رووا حكايات متواترة أنهم رأوا صورته على القمر، وروَّجت وسائل إعلام إيرانية، لهذه المعجزة التي لم يكن هدفها إلا توسيع هالة «الهلال الإيراني»، الذي وجد طريقه إلى السماء العربية بعد سنوات من رحيل الخميني، صاحب الصورة المعلَّقة على أشعة القمر الصافية. وما من شك أن الالتفاف الجماهيري حول إيران ـ وليس القدس نفسها – كان هو الهدف من «يوم القدس العالمي». وبما أن الخميني رجل دين فإننا نستدل على مكانة القدس بالنسبة لأسلاف الخميني ـ وله ذاته قياساً – بحديث من كتاب «بحار الأنوار» للشيخ محمّد باقر تقي المجلسي، وهو ممَّن يوقِّرهم آية الله الراحل من علماء مذهبه، حيث يورد ما نَصَّه «عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته يومًا عن المساجد التي لها الفضل، فقال المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وعلى آله، قلت والمسجد الأقصى جُعِلت فداك؟ فقال ذلك في السماء، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت إن الناس يقولون إنه بيت المقدس؟ فقال مسجد الكوفة أفضل منه» (ج 22 ص 90).
ما علينا.. دعونا نعود إلى حكاية «طريق القدس»، التي سمَّى الإيرانيون باسمها فيلق النخبة في الحرس الثوري، والمعد أساساً لاختراق الأمن القومي العربي، أعني «فيلق القدس»، الذي تفاخر زعيمـــه قاسم سليماني يوماً بأنه المتحكم في الشأن الأمني في العراق.
هذا الفيلق هو المسؤول بالطبع عن دعم كل المليشيات المسلحة التي زرعتها إيران في نسيجنا الشعبي، وشقت بها سلمنا الاجتماعي، بشكل ينبئ بمحاولات ثأر تاريخي على شعوب المنطقة وتراثها الفكري والحضاري، وبصورة تؤكد أن الهدف من إطلاق اسم القدس على هذا الفيلق ليس لأن هدفه تحرير القدس الشريف، بقدر ما هو حيلة من حائك السجاد ليجعلنا نتلهى باسم القدس في مسمى «فيلق القدس»، بدون أن نرى حقيقة أفعاله في تقويض الأمن القومي العربي، لا الإسرائيلي بكل تأكيد.
ونعود مرة أخرى إلى حكاية «الطريق إلى القدس»، الذي يمر الآن عبر صنعاء، على الرغم من أن صنعاء في جنوب الجزيرة العربية، بينما القدس في شمالها، نعود إلى الحكاية، لنتذكر معها تصريحات أحد مندوبي طهران في البرلمان الإيراني رضا زاكاني في وقت سابق، حيث أكد أن صنعاء هي رابع عاصمة عربية تسقط في يد إيران، بعد بغداد وبيروت ودمشق، قبل أن يختتم بالقول: إنه «بعد الانتصارات في اليمن بالتأكيد سيبدأ دور السعودية».
الأمور واضحة، على الرغم من محاولات كتائب إيران الإعلامية في الصحافة العربية القول بأن إيران إنما تفعل ذلك في سبيل القدس، ولسواد عيون الفلسطينيين المظلومين، وهو الأمر الذي فضحه زعيم المعارضة المغيب مير حسين موسوي الذي قطع بأن النظام في طهران يرفع شعارات القدس، ومعاداة أمريكا وإسرائيل ليجعلها مجرد وسائل لدعم مصالحه في الداخل والخارج.
وبعودة أخيرة لحكاية «الطريق إلى القدس»، يظهر لنا أن خامنئي يريد أن يطول هذا الطريق، ويسير في منعرجات مختلفة، جنوباً وشمالاً، وشرقاً وغرباً، في البلاد العربية، مروراً بالرياض والدوحة وأبوظبي والقاهرة وعواصم المغرب العربي والسودان والخليج إلى أن ينتهي على حدود القدس عند عمَّـــان التي لن يجرؤ على تجاوزها، لسبب بسيط جداً، لا، لأن كلفة عودة القدس كبـــيرة وحسب، بل لأن القدس ليست في حسابات من رسم هذا الطريــــق، ولا شأن له بها إلا بالمعنى الذي تكون فيه هذه المدينة المقدسة مجرد ورقة على طاولة لعب حائك السجاد مع راعـــي البقـــر، وكذلك للتحشيد الجماهيري في الداخل الإيراني الذي يعاني أوضاعاً اقتصادية مزرية، وغير مسبوقة، وفي خارج إيران حيث من لا يزال يصدق أن الطريق الإيراني إلى القدس سينتهي فيها.
القدس للأسف هي حصان طروادة الإيراني الذي مكن قوات فيلق القدس من الاختباء فيه، قبل أن نفتح للحصان أبواب مدننا العربية، مدينة بعد أخرى، ليخرج من الحصان الخشبي جنود الاغريق الجدد يشعلون الحرائق في كل شارع وحارة في هذه المدن المحترقة، لنسمع من تحت الركام، ومن وراء الدخان صوتاً يقول: «صنعاء رابع عاصمة عربية تسقط في يد طهران». ولا عزاء للمخدوعين.