في الفيلم “المناظرون العظماء”، بطولة وإخراج دينزل واشنطون وإنتاج أوبرا وينفري، يقف تلميذ من فريق الشاعر الأميركي ميلفن تولسون على منصة قاعة المناظرات في جامعة هارفارد، وكان طفلاً أسودَ قادماً من الجنوب.
كان تلميذ من هارفارد قد استعرض سلسلة من المبررات المنطقية والأخلاقية والقانونية التي تؤيد استبعاد الطلبة السود من دخول الجامعات المرموقة.
لكن عضو فريق تولسون استجمع شجاعته على المنصة ثم صرخ “إن القوانين الانتقائية ليست فاسدة وحسب، بل ليست مثالاً للعدالة على الإطلاق”.
كانت هذه الجملة واحدة من الحقائق التي هزت أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين. قصة المناظرين العظماء the great debaters، تلاميذ جامعة ويللي السود، يحفظها الأميركيون ويتذكرون أيامها المجيدة. ويعزى لشاعر قصيدة النثر الأميركي تولسون الفضل في تأسيس جيل مدارس جديد، مطلع الأربعينيات. سيتناسل ذلك الجيل مع الأيام حتى ينجب أوباما.
كان المسرحي الفرنسي بومارشيه، ت. 1799، قد أطلق صرخة أخلاقية أعلى دوياً، سبقت تولسون بما يقرب من قرنين من الزمن. ففي “حلاق أشبيلية” ثم العمل التكميلي “زواج فيغارو” كانت شخصيات بومارشيه تصرخ على المسرح ضد النبلاء من ذوي الدماء الخاصة والنقية “ما معنى إنك شريف، إنك فيما سوى مولدك لستَ أفضلَ مني في شيء”. سيغرم موتسارت بأعمال بومارشيه لينتج “زواج فيغارو” لتصبح أوبرا كل العصور.
كانت السلالات الخاصة على الدوام، في كل العصور والجغرافيات، هي الطاعون. تغرق الطائفة في أوهام خاصة، غير علمية ولا أخلاقية، ثم ترتقي لتصبح جزءاً من إرادة الرب، ثم جزءاً منه.
ولأن كل الأشياء هي ملكية خاصة بالرب، بمن في ذلك البشر، فإنها تصبح بالضرورة حاجات خاصة بالسلالة، الطبقة، النقيّة المُختارة. ما إن تمتلك هذه السلالة القدرة وآلة القهر حتى تصبح سلالة عمياء. وإذا كان المرء لا يزال طفلاً قادراً على طرح الأسئلة البسيطة والصادمة فسيصرخ في الفصل الدراسي بمعلمه: لكن لماذا يختار الله عبد الملك الحوثي ولا يختار إيزابيل اللندي؟
ما الذي سيجنيه الرب من عبد الملك بالمقارنة بإيزابيل؟ وفيما لو إن إيزابيل كانت قد مارست الجنس في شبابها خارج الزوجية فإن طفلها سيكبر روائياً ومثقفاً ينشر السلام في العالم، في حين سيعقد عبد الملك قرانه في الجامع الكبير وينجب عيالاً يقتلون الناس في الطرقات.
الليلة قبل البارحة، أو قبلها، دوّن القائد العسكري الجنوبي جوّاس آلامه وتجربته في الفيس بوك. قال إنه كان عسكرياً ماهراً وأن العسكريين في صنعاء كانوا يصفونه ب”الخادِم”.
وأنه عندما ترجاهم لأكثر من مرّة أن ينسوا قصة إنه خادم وأنهم “شيوخ أبناء شيوخ” كان يصاب بالصدمة. فهم لا يعرفون خارج هذه القصة عن العسكرية ولا السلاح شيئاً. أما صديقي زياد قاسم فيقول إنهم أسوأ من ذلك بكثير. فاليمني القديم الذي قال إنه لا بأس من هذا الدين الجديد شريطة أن يكون لكل الناس قالوا إنه مرتّد ثم وصموه بالأسود العنسي. “يريدون مني أن أصدّق أن زعيم عنس كان زنجيّاً” يضحك زياد ونحن في المقهى.
في الأسبوعين الماضيين زج الحوثيون ب 500 فرداً من رجالهم في الكليات العسكريّة، بلا معايير وخارج المنافسة. سيتخرّج هؤلاء ال 500 بعد ثلاثة أعوام كضباط، وليس جنوداً، وسيصعدون في العسكرية بسرعة قياسية. خلال عشر سنوات سيكون لدينا 500 ضابطاً رفيعاً في الحيش يتبعون عبد الملك الحوثي، الذي سيكون عمره حينئذ 44 عاماً.
ستستمر الظاهرة بالطريقة ذاتها، 500 ضابطاً كبيراً / عام. مع بلوغ عبد الملك الحوثي سن الخمسين عاماً سيكون الجيش قد أصبح بكل قيادته جيشاً للرب. أما مدونته السلوكية والقتالية فستكون مواجهة أعداء الرب. أي الأسود العنسي. ولن يكون الأسود العنسي سوى زياد قاسم وعبد الله الحرازي ويحيى الثلايا الذين سيجرؤن على القول إن الجيوش الوطنية لا تبنى بهذه الطريقة. وإذا كان المرء لا يزال طفلاً قادراً على صناعة الأسئلة فسيصرخ بمدرس مادة الدين: ولكن لماذا يضع الرب رأسه برأس عبد الله الحرازي، أي ربّ هذا؟
ثمة موجّة كاسحة من التمرّد بين الشابات والشبان الجدد. وصلت الموجة حد السخرية من كل ما يخص فكرة النبوّة نفسها. يعمل الحوثي بسرعة على إعادة إنتاج السلالة الزرقاء بوصفها جزءاً من الله.
في المقابل يزخر الفيس بوك بجيل جديد من اليمنيين، الذين درسوا الرياضيات والأدب، لم يعودوا يكترثون لكل ذلك الهراء. أبعد من ذلك ينتجون سخرية شرسة كان ينظر إليها سابقاً بوصفها “من نواقض العقيدة”. في الركام الذي غطى اليمن، كما لو أن بركاناً عظيماً فاض عليها، تتميّز جهتان بشكل واضح. تقعان، كلياً، خارج النظام الحزبي والسياسي التقليدي. الجهة التي أنتجتها الكتب الصفراء وأوهام التنين الأزرق، والجهة الأخرى التي تعاملت بجسارة وذكاء مع عالم أبل وأمازون وغوغل. تعلم هذه الجهة الأخرى أنه لو كان أحد يستحق إن يكون ابن الإله فهو غوغل.
ماذا يريد الرب من صنعاء؟ بما إن الرب خلق هذا الكون كلّه، بكل ضخامته الخارجة عن الوصف، فلماذا يقول الحوثي إنه مسرور فوق سمائه لأنه حصل أخيراً على حزيز ونقطة الأزرقين؟ كأنه تجلى على الييت المعمور ونادى ملائكته “أبشروا يا ملائكتي لقد استعدنا نقطة الأزرقين” ما هذا الجنون؟
كان الحوثي يلهبُ جنوده الذين لا يقيمون الصلاة وهم محتشدون أمام صنعاء: “تماسكوا، فالله معنا ولن يضيعنا، وهذه إرادته”. كان يعني بإرادة الرب رغبته وأمانيه. وكنت، شخصياً، أتأمل المشهد وأصاب بالحيرة. كيف يصدّق كل أولئك الناس أن الله عازم بالفعل على استعادة بيت بوس، والدبعي للمفروشات. ولكن لماذا يكن الله كل هذا العداء والكراهية للدبعي للمفروشات. لله الكون كله، وللدبعي مفروشاته. ما هذا الجنون الذي حشا به الحوثي رأسه ثم رؤوس مسلحيه.
دخل صنعاء بحثاً عن الفساد، أعني الحوثي. ثم أسس لأكثر حقب الفساد قذارة في التاريخ. جمع إلى صفوفه أكثر الناس ثراء وقذارة، وفي المقدمة منهم علي عبد الله صالح ومعه رجاله. اتجه الحوثي لكل الناس الذين سواد الثلث قرن الأخير وجعلهم حلفاءه. استثنى فقط أولئك الذين تركوا علي عبد الله صالح منتصف الطريق وانحازوا ـ بصرف النظر عن المبررات ـ إلى الثورة الشعبية.
لنأخذ هذا المثال:
يملك دويد قصوراً مهولة، تاج تلك القصور يبزّ قصور مدينة “سُر من رأى” مجتمعة بمئات المرّات، بالنظر إلى مقتنياته العظيمة ذات القيمة. تقول الوقائع إن دويد لا يعمل في إنتاج البضائع ولا الخدمات، لكنه رغم ذلك يمتلك المال والأرض والعقارات والنفوذ. أيضاً ناجي الشائف، لا ينتج شيئاً بالمرّة، لكنه يمتلك كل شيء. أما قصر الشائف في الحصبة فتكفي أحجار سوره العظيم لبناء أكبر كورنيش في العالم! هؤلاء لا ينتجون البضائع. صالح نفسه، كان موظفاً بدرجة رئيس، يملك الآن مالاً كافياً لتخريب اليمن لمئات السنين.
هؤلاء هم أحلاف عبد الملك الحوثي الجدد، يطلق عليهم صفة الشخصيات الاعتبارية الوطنية.
أمام يحيى صالح، الثري بلا حدود، فقد وضع رجلاً على رجل أمام معازيمه وشرح لهم لنصف ساعة كيف جلب خشب طاولات الأكل والشاي من أوكرانيا. أما شقيق فارس منّاع فقال إن الطيران الحربي دمر مقتنياته في الحرب السادسة، وأن القيمة الكلّية لتلك المقتنيات تبلغ 30 مليون دولاراً.
هؤلاء الأحلاف الجدد. إلخ إلخ إلخ
التاريخ سيذكر الأمور كما حدثت، دون مزيد من الشروح. مثلاً سيقول التاريخ إن الحوثي اقتحم منزل توكل كرمان، المرأة التي قادت 100 اعتصاماً ـ بالعددـ ضد جبروت شيخ الجعاشن. ثم اتجه جنوباً إلى إب وعقد حلفاً مع شيخ الجعاشن نفسه، مقدّما الرجل بوصفه شخصية وطنيّة عظيمة تواجه الإرهاب وتحرس معه إرادة الله.
لنتحدث قليلاً عن حميد الأحمر..
قال حميد الأحمر إنه بدأ حياته بصندقة. وهذه المعلومة، من الناحية الفنّية، صحيحة. فقد بدأ حياته في صنعاء القديمة، قبل العاشرة من عمره، بصندقه صغيرة كان يبيع فيها جعالة وأشياء أخرى. وكان زبائنه في الغالب من أبناء أسرته.
لم يكن حميد الأحمر بحاجة إلى المال فهو نجل لشيخ إقطاعي يملك الأرض الواسعة وتتعدد مداخل رزقه كما هي عادة الإقطاعيين في كل العالم. لم يكن الإقطاع، بالمرّة، عملاً نبيلاً ولا إنسانياً. في تلك الساعات كانت أسرة الحوثي في صعدة تحتكر النشاط الإقطاعي كلّياً، وإذا كان الشيخ عبد الله الأحمر يقدم نفسه كشيخ أحادي البعد بلا تاريخ فإن الحوثي كان يقدم نفسه ممتداً في التاريخ حتى حدود السماء السابعة.
كانت خطورة الأحمر الإقطاعي، على المدى الطويل، أقل من خطورة الإقطاعي السيد. ما إن يدخل الشيخ إلى المدينة حتى يصبح “يوبي” أو واحداً من رجال الأعمال، ثم ينفق بقية حياته في المطارات. أعني هذا التحول ممكن، بخلاف السيد. فالسيد يجر معه التاريخ كلّه. فهو ليس إقطاعياً لأنه بحاجة إلى المال وحسب، بل لأن الرب أيضاً عينه على المال، المال السهل الذي في جيوب الرعية، أي المواطنين.
كبرت صندقة حميد الأحمر، واحتفظ بها حتى وهو يلتحق بالإعدادية. لم تكن تدرّ عليه المال، ولم تقده فيما بعد إلى مملكته المالية. لكنها، كفكرة، قادته بعيداً عن النسق الذي يهيمن على العقل الإقطاعي. كان أسياد صنعاء كلهم يجنون المال بالطريقة نفسه، في المقدمة من ذلك هاشميو صنعاء. فهؤلاء لم يكونوا يملكون الأرض وحسب، بل يسحقون المواطن اليمني لينخفض من درجته كمواطن حتى يصير واحداً من الرعايا.
وما إن يصبح واحداً من رعايا الشيخ، أو السيد، حتى يصبح مملوكاً. عاشت اليمن عصر المماليك التعساء لمئات السنين. ساعد أبناء النبي على مدار الأزمان في أن يجعلوا من تلك الظاهرة اللأخلاقية أبدية، وشلالاً لا يقف عند حد. وكانت هذه هي أكبر مساهمة قدموها للمجتمع المدني منذ نزوجهم من الجزيرة العربية. وهي درجة تشبه أهل الذمّة. في الأخير لا يقف القانون إلى صفك، ولا تجرؤ حتى على السؤال عما يقوله القانون.
كما يملك السيد الحق في إن يلغي وجود كلّياً فيما لو سحب قطعة الأرض التي تمتلكها. لا يزال الحوثي يمارس السلوك نفسه في صعدة وغيرها. وكان الشيخ والسيد تمرئيين للمعنى ذاته، للظاهرة ذاته. غير أن الشيخ كان بلا تاريخ، ومن الممكن أن يتحول إلى أشياء أخرى. وهو تحوّل لا نتوقعه في حالة السيد.
خرج شابان جديدان من الفريقين. حميد الأحمر من فريق الشيوخ، وعبد الملك الحوثي من فريق السادة. كان عبد الملك يدرس في الجبل كيف يستعيد وديعته التي أوصى بها الإله. أي كيف يستعيدنا نحن كمماليك. وكان حميد الأحمر يفكّر كيف يصنع مزيداً من الشركات ليبيعنا بضاعة ويحصل على أموالنا. وصل حميد الأحمر حتى درجة الدكتوراه في الإدارة. أما الحوثي، عبد الملك، فقد أغلق الجامعات بعد ذلك. ” جامعات: إب، الحديدة، عمران، صنعاء” كأمثلة.
كان يحيى الأحمر، عم حميد الأحمر، هو الباب الذهبي لذلك الشاب النابه للدخول في عالم التجارة. فعندما أحس الرجل بالإعياء غادر اليمن إلى الخليج وترك تجارته للشاب حميد ليديرها بحماسه وصلفه ومثابرته التي اشتهر بها منذ كان يبيع أبناء أعمامه وعمّاته الجعالة في صنعاء القديمة.
بإستخدام تعريف ماركس للبوجوازية، بعيداً عن تزييف الماركسيين للمصطلح فيما بعد، فإن البوجوازية هي الطبقة التي حصلت على المال بسبب قربها من نظام الحكم، وتحلّقها حوله. يتجه التعريف الماركسي الكلاسيكي إلى الاعتقاد إن قرب الطبقة البورجوازية من النظام الحاكم هو السبب الوحيد في حصولها على المال. أي أنها لا تنتج البضائع ولا الخدمات.
ينطبق هذا التعريف على كل أحلاف الحوثي الجدد. مع الأيام سيضيف الماركسيون صفة “الحقيرة” إلى الطبقة البوراجوازية. أي أن الحوثي يمكن أن يكون أي شيئاً إلا أن يكون مناضلاً ماركسيّاً. ليس لأن الحوثي يعتقد أن الله خلق ماركس ليكون خادماً لآل البيت وحسب، بل لأن أحلافه الجدد هم العدو الكلاسيكي للماركسية، وبغيابه سينهار الجزء الأعظم من الخطاب الماركسي التقليدي!
يعمل الحوثي الآن على مصادرة أموال حميد الأحمر خارج القانون. يقول إنه يصادرها بفعل ثورة الشعب. أما الشعب الذي يقصده فهم مسلّحوه الذين فتح لهم هادي المعسكرات وأمدهم صالح بالخطط وأجهزة التحكم. تقوم فكرة الثورة الحوثية على مبدئ جوهري “الولاية”. وهي فكرة دينية يؤمن بها حوالي 18% من سكان اليمن، في أعلى التقديرات. من هذه النسبة الصغيرة، التي لا تبلغ خمس السكان، لم يحصل الحوثي على التأييد الكلي، وفي أفضل حالاته فقد حصل الحوثي على مساندة حقيقية، ولو بالمعنى النفسي، من 10% من السكان.
هذه هي الثورة الحوثية. أي هيمنة الأقلية على الأكثرية، وهي ليست أكثر من عملية اختطاف بشع تحت تهديد السلاح.
استفاد حميد الأحمر من قرب والده من صالح فحصل على المزيد من التوكيلات التجارية. واستفاد الحوثي من قرب سلالته من صالح فبنى الكثير من المعسكرات. شركات الأحمر، ومؤسساته، وظفت آلاف اليمنيين، أما معسكرات الحوثيين فانتظرت الوقت المناسب وقتلتهم، ومنذ زمن طويل انفك حميد الأحمر عن النظام وشق طريقه في عالم المال والأعمال، مؤسساً أول بنك يمني سيكون له امتداد خارج الحدود.
بينما فتح الحوثي الحدود للسلاح الإيراني، وعمال المخابرات، وبنى مصنعاً للذخيرة في صعدة. وعندما هاجم الحوثيون عمران طلب العسكريون من هادي السماح لهم بمهاجمة “مصنع الذخيرة” الحوثي في صعدة فرفض. لكنه عاد فوافق على أن يقتحم الحوثيون “شركات” حميد الأحمر!
حميد وعبد الملك موضوع للدارسة. أعود إلى الفكرة السابقة. يمكن أن يتحوّل الشيخ إلى رجل أعمال. أما رجال الأعمال فتوجد طريقة واحدة للتعامل معهم “إجبارهم على احترام القوانين، وفي المقدمة الضرائب”. تعنى الحياة الليبرالية أقصى العناية برجال الأعمال، بصرف النظر عن كل الملاحظات، لأنهم يخلقون الوظائف ويصنعون الرفاه وعلى أكتافهم تقوم قدرات الدولة. كان ماركس نفسه قد اعترف بأن الليبرالية غيرت الكون وأنتجت فائضاً من الإنتاج يزيد مئات المرات عمّا كان سائداً في القرن الذي سبقه. وبفعل الليبرالية الاقتصادية، أي رجال الأعمال والشركاتية، فإن الدخل العام للفرد في كل مكان في العالم زاد حوالي 85 مرة بالمتوسط، مقارنة بما كان سائداً قبل مائتي عام.
أما الجماعات الدينية المسلّحة، المسكونة بأوهام الاصطفاء والاستثناء والوديعات السماوية، فلا يتوقع منها سوى تعزيز كل المكتسبات الحضارية لإحكام السيطرة ومصادرة قوى وممكنات الكائن الحر. الكائن الحر، كلّي الحرية والإبداع، هو نظير للرب في تصور هذه الجماعات. الحوثي يتمدد في الفراغ الذي يخلقه في أجسادنا، أي في حرياتنا. فامتلاك المواطن اليمني لحرّيته وضميره الكامل والشامل يعني تقليص حركة الحوثي ودحره إلى الأطراف والجحور.
فهو ينطلق من فكرة إنه استثناء، أي كامل. وأن استثناءه هو حاصل جمع نواقص بقية البشر. لذا على البشر أن يعيشوا ناقصي القدرة والإرادة والحرّية لكي يكون لوجوده معنى.
يدفع حميد الأحمر ثمناً باهضاً لانحيازه إلى فيصل بن شملان 2006، والثورة الشبابية 2011.
أما دويد، وقصره في صنعاء يخفق الطير بين جنباته مائة عام، فيعيش أزمنته الذهبية لأنه وقف مع صالح في 2006، ومع صالح في 2011. ورغم أن حميد الأحمر يجني المال من بيع الخدمات، إلا أن دويد يجني المال وهو لا يفعل شيئاً يذكر. يقول الحوثي إن حميد الأحمر عدوٌ للوطن، وأن دويد من الشخصيات الوطنية العظيمة التي تستحق الحماية والحراسة.
ومع ذلك لا تخجل صنعاء من هذ الجنون. لا تخجل، بالمرّة لا تخجل. إنها مدينة يكاد يغمرها الفجور من جهاتها الثمان حتى إنها لم تعد قادرة على القول “لا يوجد قانون في العالم كله، وفي التاريخ، يعطي الحق لمسلحين باقتحام بنك أو شركة”.
حتى المبادئ الأخلاقية العامة التي اكتشفها المجتمع الإنساني السحيق قبل أكثر من أربعين ألف عاماً ـ راجع فجر الضمير لجيمس برستيد ـ فشلت صنعاء في أن تتذكر منها شيئاً. على سبيل المثال: لا يملك أحد، بصرف النظر عن دعاويه، الحق في أن يضع يده على مال آخر، بصرف النظر عن الشكوك حول أمواله، إلا وفقاً لقانون ونظام عدالة. على أن يكون نظام العدالة متفق عليه ومستقل، وذا كفاءة وقدرة.
أما المرأة العجوز التي كانت تتابع الطريقة التي يقتحم بها الملكيون منازل الأسرة في العام 2014 وتغطي عينيها بيديها فقد تذكرت طفولتها دفعة واحدة. عندما كانت طفلة قتل الملكيون والدها وشقيقها أواخر الخمسينات. ثم عادوا مرة أخرى في في كهولتها ليقوضوا الأسرة من جديد، وليجوسوا خلال الديار كما فعلوا أول مرة.
من صفحة الكاتب