فرنسا والغرب يتداعون ويموجون كقطع السحاب في شوارع باريس والمدن الفرنسية ، بعد الحادث الإرهابي الذي وقع الأسبوع الماضي،وأودى بحياة حوالي (15) شخصا في صحيفة (شارلي ايبدو) والمتجر اليهودي .
تحت شعار ( مسيرة الجمهورية في باريس ضد الإرهاب ) تقاطرأكثر من (3، 3) ملايين من أبناء الشعب الفرنسي للشارع رافضاً للقتل والإرهاب.
فرنسا واقفة على رجل منذ أسبوع جرّاء حادثة بنظرهم كبيرة ومزلزلة ،وبحساباتنا الفلكية ومعاييرنا الإنسانية بسيطة وصغيرة ، لأنه يحدث عندنا من أمثالها عشرات الحوادث في أطرف سوق، أو شارع، ولا تهتزّ لها أقصرشعرة في أصغرشارب من شواربنا المعصورة ، وفي باريس هزّت تلك الحادثة الجمهورية الفرنسية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والسويد والنرويج والنمساء وسويسرا وبلجيكا وأسبانيا،وهولندا وغيرها .
اسمحوا لي أن أستخدم هذا التعبير وأقول : حادث بسيط جدا ، مقارنة بمئات وآلاف الحوادث والجرائم التي تحدث في بلداننا وشعوبنا العربية والإسلامية ، كان كافياً لجعل الفرنسيين والغرب يقفون عن بكرتهم في توقيت واحد ، بينما نحن نعجز ، أحيانا ، فقط عن حصر الحوادث والجرائم التي تُزهق فيها آلاف الأرواح ،في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ، وكلها لم تقُد إلى فاجعة واستنفار جماعي ، يخرج على إثرها للشوارع حتى ألف متظاهرتنديدا بها ورفضا لها .
وفي عاصمة الفن والأناقة والعطر خرج طوفان بشري كالموج الهادر،تغطُّ به الشوارع والساحات ويتقدمه « فرانسوا هولاند » و أركان حكومته ،و« باراك أوباما» و«ديفيد كاميرون »و« أنجيلا ميركل » وكبار الساسة والمسؤلين الغربيين .
قارنوا فقط ، بين ذلك الحادث الإرهابي ،الذي تعرض له منتسبو الصحيفة الأسبوعية (شارلي أبيدو) ، وكيف جعلهم يشمّرون له كل الطاقات ويوظفون له كل الامكانيات، وبين حوادث مستشفى مجمع الدفاع بالعرضي ،وذبح وقتل الجنود واليمنيين عموما، في مديرية جبل راس وسيئون وميدان السبعين وشارع كلية الشرطة والطالبات في رداع والمتظاهرين في التحرير والمركز الثقافي بإب، وغيرها مئات الحوادث والمذابح المتواصلة، التي لم تحرك لنا ساكنا، ولم تكن - أيضا - كافية لايجاد موقف معين وشريف فيما بين ( المؤتمر، الإصلاح ، أنصار الله ، الاشتراكي ،الحراك ، الناصري ) ، فجائع من هذه التي نعيشها دائما لم توحّد اليمنيين ،ولم تؤنّب ضمائر الأحزاب والقوى المتصارعة، لم تقنعهم بضرورة ووجوب تأجيل الخلافات والتفاصيل المملة والصغيرة والمكاسب الشخصية ، وتصفية الحسابات ، وتجعلهم يقفون صفّا واحدا لمواجهة القتل الجماعي وايقاف هذا الموت الذي يعيق مستقبلنا ويذبح حياتنا .
أعترفُ : يوم أمس الأول اذهلني الفرنسيون، ادهشني ذلك التدفق الرائع للشوارع لدرجة يعتقد معها المرء إنه لم يبق أحد منهم في بيوتهم ومقار أعمالهم ،لقد تداعوا وبتلك الصورة الجميلة، بسبب مقتل حوالي (15) شخصا ، لاحظوا كم هي حياة الإنسان عندهم غالية ومهمة ، وماذا يعني لهم قتل إنسان منهم خارج القانون ، وكيف يواجهونه جميعا بهذا التوحُّد والتماسك، لاحظوا كيف تقدّس الأمم حياتها، وتحمي أبناءها، وتنتصر لضحاياها ، وتحاكم القتله،وتقطع أيديهم وأعناقهم ومصادر تمويلهم وكل من يفكر أن يتعاطف معهم، مجرّد تفكير ، أو يتستر عليهم ، احترموا واقتدوا بهذا النوع من الأمم والشعوب القادرة على حماية نفسها ،وخلق رأي عام جماعي يضيّق الخناق على أعداء الحياة والجمال والإنسانية والانتاج والحرية والنهوض والسلام ..ونحن تاريخ من الهزات والهزائم والموت والجرائم نعيشها بمعدل يومي تقريبا ، ولم تؤثّر في أحد منّا، لم تحركنا أجسادُ أطفالنا وشبابنا وآبائنا وباناتنا التي تتفحم وتتفتت وتتمزق أمام أعيننا وبالجملة ،وليس بالتجزئة أو بالتقسيط ، بحكم إن القتلة عندنا من فئة تجار الموت بالجملة والمكاسب السريعة..
أكرر وأقول : تأملوا، يا بني قومي ، فرنسا والغرب الذي تضامن كله معها، كيف ردوا على تلك الجريمة؟! تأملوا المزاج العام عندهم وفي ردة الفعل والحيوية والكرامة التي تتحلى بها هذه الشعوب ، التي تجبرنا أن نرفع لها القبعة ، مهما كانت شدة اختلافنا معها ورفضنا لسياساتها تجاه قضايانا العادلة.تأملوا كيف يحزن ويسخط ويتضامن شعب بأسره لمقتل شخص أو بضعة أشخاص ،ونحن لدينا فائض من القتل والإرهاب والأحزان والبؤس والدماء، والجوع، والهمجية ، ومع هذا نبدو وكأن شيئا لم يكن ، متعايشين مع كل هذه الخلطة والكمية الهائلة من الموبقات والمجازر ، والفوضى ، واللااستقرار ..
على الأقل يفترض بنا الاتفاق حول القضايا التي تتعلق بموتنا بكل هذه الأعداد وبهذه البشاعة والدموية والوحشية ، على الاقل نتحاور
حول الكيفية التي تجنّد فيها الدولة بمحتلف مؤسساتها والأحزاب بمختلف هيئاتها والمجتمع المدني والشباب والمثقفين والكتاب ورجال الأعمال وغيرهم ، الطاقات لمواجهة الإرهاب والفوضى وتدمير المؤسسات ، نتفاهم كيف يفكر كل واحد منّا وكأنه يفكر للجميع ، كيف نضع قواعد للحوار ، كيف نحارب الإرهاب والجوع ، نفكر كيف نفكر باستقلالية آرائنا عن كل أشكال التدخلات والأوهام والاستبداد وفتاوى القتل ، نفكر للحياة وللتعايش وللمستقبل ،بعيدا عن الخضوع والاستلاب والاستسلام لهيمنة أي جموع ، نفكر من أجل وطننا ونحن متحررون من قيود الملل والموروث والعدوانية والميل للرغبات والأمزجة المعينة والشخصية، نفكر كيف نعقلن الخطاب ، ونتعامل مع أشكال الرفض والكراهية وثقافة الاقصاء المتبادل التي تجعل من القتل الجماعي والعنف أمراً مقبولاً ومستشرياً بين مختلف التيارات وبمختلف العناوين واللافتات ..!