ظل اليمني لسنوات يحشد طاقاته التضامنية لتسجيل مواقف مناهضة للحرب التي كان يشنها المخلوع ضد محافظة صعده، إيمانا منه بأن الحرب ليست حلاً لتسوية النزاعات بصورها المختلفة، متجرداً من “ورطة” التفتيش في النوايا ومحاكمتها، معتمداً على مخزونه الإيماني العميق بقيم الإنسانية التي تسكنه، ويُراد له العيش بدونها من قبل مراكز القوى والنفوذ، لكنه في كل مرة يثبت حكمته، وتشبثه بحقه في الحياة والتضامن كفعل إنساني غير قابل للمساومة ولا يخضع للابتزاز الرخيص، رغم شظف العيش وقسوة الظروف المكبلة للحياة الكريمة، وانتشار “العسس” في كل الأمكنة ومحاصرتهم لكل الأشياء بما فيها مراقبة “الأنفاس”.
الأيام دول، كحقيقة وجودية تطل برأسها من على شواهد معاناة اليمني، مهما أظهرت الآلة الإعلامية لمراكز القوى عن قدرتها في تسطيح وعي تابعيها، إلا أن الإخفاق والخزي يظل حليفها أمام الوعي الجمعي الذي يجسد الرفض الحقيقي لسياسات الحروب وثقافة الكراهية.
الراهن اليمني يجري عملية فرز بين مشاريع الحروب ومشاريع السلام، وان تصوّر أصحاب ثقافة الكراهية أنهم الأكثر حظاً وحظوة، بما يملكونها من أدوات قمع وتعذيب ووسائل إرهاب، واستحواذهم على ما تبقى من مقدرات الدولة وتسخيرها خدمة لمشروعهم، إلا أنهم سيولون الدُبر، تطاردهم لعنات المواطن اليمني وضحكاته الساخرة التي تزينها حبات العرق المنحدرة على جبينه، برائحتها المنعكسة من رائحة الحقول والأسواق التي ينغمس فيها متجولاً بحلمه الممتد على سماوات بلاده، كحمامة سلام لا تموت، رغم انف أدخنة الحرائق الخانقة ومشعلو نيرانها.
عملية الفرز تلك، أعادت تموضع البعض ممن كانوا ضمن صفوف مشروع السلام، ليختاروا لأنفسهم مكاناً آخر يليق بمكانتهم.
هؤلاء ربما شعروا بأن السلام لم يمنحهم غير الأذى النفسي والجسدي ذات يوم مضى، وظلوا يدفعوا ضريبة مواقفهم تلك، وأن الفرصة مواتية لاستعادة شيء من الأنفاس والانتقام للذات، لكنه انتقام من ضحايا مثلهم للأسف، لم يباشروا الثأر بأنفسهم، لكنهم شرعنوا له بمواقفهم وتأييدهم، وتعريضهم بمخالفيهم، وهذا لعمري اخطر من المباشر للفعل.
لم تجد مليشيات السيد من وسيلة تستخدمها لوقف المد الجماهيري الرافض لها ولسياساتها العدوانية تجاه الأرض والإنسان، غير التعذيب الجسدي بطريقة تنم عن وحشية تسكن أفرادها، كما في حالة “صالح البشري” الذي مات بسبب تعذيبه، ومعاناة رفيقه “فؤاد الهمداني”، الذي ستظل جراحه لعنة تطارد مليشيات السيد وأنصارهم من الحقوقيين ودعاة المدنية.
الإنسان موقف، ومن موقفه تستطيع الحكم على عقله وضميره وتربيته وأخلاقه ومبادئه، وتعذيب “البشري والهمداني” اسقط كثير من أقنعة الوجوه الزائفة لتظهر لنا مجرد “مؤخرات” ملؤها العفن