أن نظلّ نُحمّل الطرف الخارجي أسباب ما نحن فيه من ابتلاء ومعاناة وفُرقة وشتات وفقر وجنون، فتلك صيحة عبثية وشمّاعة سخيفة في غير مكانها ، الخارجي لم يجبرنا على الاقتتال فيما بيينا ،أوإقصاء ورفض ونفي بعضنا البعض ، والخارجي لم يجبرنا على ممارسة الفساد واضعاف مؤسسات الدولة مع سبق الإصرار والترصُّد ، وتزييف الواقع وعدم الاحتكام في المنازعات للقضاء والقانون والأنظمة واللوائح، والخارجي لم يكمّم أفواهنا ويمنعنا عن قول كلمة الحق وعمل ما نراه مناسباً، وكل ما يصبّ في مصلحة وطننا ومستقبلنا ، والخارجي لم يضعنا في سجن كبير ويفرض علينا مذهباً دينياً ومنهجاً سياسياً ، ونظاماً تعليمياً معيناً ، والخارجي لم يجبرنا على الإساءة ليمنيتنا ،واحداث الضرر في جدار وحدتنا الوطنية وطُرق تفكيرنا ومفردات خطابنا ، والخارجي لم يجبرنا على تجهيل أجيالنا وإفساد عقولهم وتخدير ضمائرهم ، ولم يجبرنا - أيضاً - على التحدّث لبعضنا بلغة القُدرة ونيابة عن السماء ، أو بمفردات فوقية، وأسلوب القوي مع الضعيف ، والمنتصر مع الخاسر، والعزيز مع الذليل .. كذلك لم يجبرنا على أن نتعامل مع الدولة والوظيفة العامة والمال العام على انه فيد وغنيمة يجب هبره والبطش به واحتكاره ،وعدم التنازل عنه ، كونه حقاً ثابتاً للشخص والأسرة،التي من حقّها أن تتوارثه وينتقل في إطارها من الآباء للأبناء، أو للأقرب فالأقرب ، وفقاً لـ قوله تعالى ( الأقربون أولى بالمعروف )، وذلك حسب درجة صلة هذا الشخص ، أو الأسرة من القصر، أودرجة تأثيرها القبلي والجهوي والمناطقي ..والخارجي - أيضاً - لم يخفِ عنّنا الحقيقة العلمية والعصرية الثابتة التي تقول : إن من يصنع مهابة الدول هي القوانين والمؤسسات القادرة على فرض القانون وحماية الإنسان وتعزيز دور القضاء ومحاسبة الفاسدين ونشر العدالة الاجتماعية والمساواة قولاً وعملاً.. وهذا الخارجي لم يجبرنا على اجتياح المدن ونهب المعسكرات والاقتتال وعدم تنفيذ الاتفاقات ، أوعلى فرز الناس حزبياً وطائفياً ومناطقياً ، والخارجي لم يجبرنا على التحريض والتشويه وانتهاك حقوق الناس والتنكُّر لكل فضيلة وفعلٍ حسن وجميل والدفع بالبسطاء والجهلة والعاطلين لتدمير كل منجز وتدنيس كل مقدّس وإهانة كل عزيز ، وإدانة كل بريء ، ولم يجبرنا على حماية كل لصّ وقاتل وفاسد ونصّاب وعميل وانتهازي وكذّاب .. بسبب شماعة التدخل الخارجي وتفشّي الفساد وغياب المشروع الوطني وعدم تدارك البعض لفيروسات التعصُّب الديني والقبلي والحزبي ، بدأنا بافتراس أنفسنا وبعضنا البعض ، وبسبب الجهل والذاتية والأطماع بدأنا بتجاوز حدود الخلافات والخطوط الحمراء لنصل لتدمير جوهرنا الداخلي وقيم الوطنية والمصالح العامة والقضايا الكبرى التي تربطنا.. وأمام كل هذا يبدو أنه لم يعد من الممكن البقاء دون أن يطرح كل شخص مثقف وقادر ومسموع وشريف رأيه ونُصحه من غير تردُّد ، أو تخفّ . إن إكتفاء معظم الناس أمام ما يجري بالصمت والمجاملات والمداهنات والوقوف موقف المتفرّج المحايد شيءٌ معيب ،يجب أن يتغير. وأمر آخر من المناسب التنويه إليه ، وهو إذا كانت رؤى وممارسات بعض القوى والأحزاب الفاعلة والمتسببة عملياً بما نحن فيه ،تأتي من خلال مفاهيم عوجاء وأفكار مقلوبة ، مغمومة ، فلماذا يظلّ المحسوبون عليها من المثقفين والمفكرين والطليعيين والشرفاء صامتين ، يدورون في فلكها وتحت مظلتها ؟ فالأحوال وواقع البلاد يفرضان على هؤلاء تحديد موقف واضح وتاريخي ،يتمثّل أولاً: بالانعزال عن جماعات كهذه ، وثانياً: طرح الآراء السليمة والوطنية والتفكيرالذاتي ، الإيجابي، الذي يُعتبر جهاداً شخصياً ، بعيداً عن قيود وأقفاص هذه القوى، وما تفرضه على الشخص من تبلُّد وانصهار معها ومع كل ما يقود للفوضى والغوغائية التي تُعدُّ ابنها الشرعي . حريٌّ بطلائع المجتمع الثقافية والاجتماعية والمدنية والتقدمية تأدية دورها بالشكل الذي يجب ، وحريٌّ بالمغامرين مراجعة النفس والقيام بخطوات صادقة تبدأ بعقلنة الخطاب ووقف الممارسات الاقصائية و العدائية المبالغ فيها ، كما أنه حريٌّ بالإعلام والصحافة وحملة الأقلام والفكر تشجيع الجميع للاتجاه نحو الحوار الوطني الجاد المعبر عن العقل الحر ، النظيف الذي يسعى لاستعادة ما فقدناه من أخلاق وقيم تعايش مشترك، ضمن فضاء وطني، يمني، عروبي ، عمومي إنسانيّ واحد وشامل .