اليمن على مفترق طرق. إيران تسابق الزمن لاهثة خلف أحلامها الإمبراطوية. والسعودية ليس أمامها ترف اختيار ولا فائض وقت. موقف «الاسترخاء الحذر» خلال عقد مضى من العربدة الإيرانية في جنوب الجزيرة العربية والبحر الأحمر لم يزد الإيرانيين إلا شهوة للتوسع، الأمر الذي قاد في النهاية إلى ابتلاع صنعاء، ومناطق يمنية أخرى..ولم يُسدل الستار بعد. أعدت إيران منذ زمن لمعركة اليمن مدفوعة بالحماس الإيديولوجي نفسه الذي جعلها تتمدد في بيروت ودمشق وبيروت. لم يعد سراً أنها تريد إعلان إمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد، ولم يعد من «حديث المؤامرة» القول إنها تسعى إلى فرض التشيع الصفوي على العرب، فكل ذلك يتردد يومياً على ألسنة قادة بارزين في البرلمان الإيراني، أو مستشارين مقرّبين للمرشد خامنئي. مافتئت الدعاية الإيرانية تتباهى بالاستيلاء على عواصم عربية، وتردد أن البحر الأحمر أصبح مع الخليج العربي تحت سيطرة فارس. ولا ريب أن الأعداء التاريخيين للأمة العربية سواء في بعض العواصم الغربية، أو في تل أبيب، ينظرون بإيجابية إلى الزحف الإيراني على العالم العربي، بوصفه غزواً يفضي إلى مزيد من تفتيته واستنزافه، وربما تحويله إلى دول فاشلة، وهو ما يتقاطع مع المصالح الصهيونية التي لا يخدمها شيء كما يخدمها إذلال العرب، وجرهم إلى حروب وانقسامات وفق خطوط مذهبية.
خلال السنوات الأربع الماضية، صعّدت إيران تدخلها العسكري في اليمن، وعينها على الجائزة الكبرى؛ السعودية. قام ما يُسمى «فيلق القدس» بتهريب كميات كبيرة من السلاح للشيعة الحوثيين، فضلاً عن تدريبهم عسكرياً، وهو ما تُوّج بسقوط صنعاء؛ «رابع عاصمة عربية» في إيدي إيران بحسب تعبير علي رضا زاكاني، مستشار خامنئي، الذي أضاف أن الهدف التالي هو «العمق السعودي». سقوط العاصمة مكّن الحوثيين من نهب معسكرات الجيش، والاستيلاء على عشرات الدبابات والصواريخ (مركز «أبعاد» للدراسات في اليمن قال إن الحوثيين استولوا على أكثر من 120 دبابة، وأكثر من 70 مدرعة تحمل رشاشات، ونحو 100صاروخ، وأسلحة أخرى تجعل 70 في المئة من قدرات الجيش اليمني في قبضتهم، 4 كانون الثاني/يناير 2015). في الأسبوع الماضي، زادت إيران دعمها العسكري لعملائها فأمدّتهم بـ 185طناً من الأسلحة (الديلي تلغراف، 21آذار/مارس 2015). لا يمكن للسعودية أن تغض طرفها عن اغتصاب الدب الإيراني جارتها اليمنية التي تربطها بها حدود تصل إلى 1800 كم. ومن المثير للضحك أن يتحدث المحلل الإيراني، محمد صادق الحسيني، عن اليمن بوصفه «مجالاً حيوياً» لبلاده. في حوار أجرته معه قناة الميادين الشيعية، قال الحسيني مباهياً: «اليمن كلها أصبحت في دمشق وطهران والضاحية الجنوبية وبغداد...باب المندب أصبح، إلى جانب مضيق هرمز، يضيّق الخناق على البحر الأحمر، وعلى الإسرائيلي في قناة السويس...نحن سلاطين البحر الأبيض المتوسط الجدد، نحن سلاطين الخليج الجدد...نحن سلاطين البحر الأحمر.. نحن سنصنع خرائط المنطقة». ويبرر الحسيني غزو العراق (الذي يسميه دعماً) بحماية «الأماكن المقدسة» الشيعية، وبكونه «مجالاً حيوياً» لبلاده. ولأن اليمن، أصبح، بحسب تعبيره، «في دمشق وطهران والضاحية الجنوبية وبغداد»، فهذا يعني أنه هو الآخر «مجال حيوي» لإيران، وهو أمر يستخف بالعقول، وينطوي على عنجهية صارخة واحتقار للعرب. اليمن «مجال حيوي» للسعودية، و»حديقة خلفية» لها، وأي عبث بأمنه يهدد «أمنها القومي»، وأمن دول الخليج والمشرق كافة.
كان لا بد أن يؤدي الافتقار إلى الرؤية وترتيب الأولويات إلى هذه الفوضى في المشهد اليمني. لم تنتهج السعودية ولا دول الخليج الأخرى إستراتيجية مؤثرة وشاملة لمواجهة التغول الإيراني في لبنان والعراق وسوريا، وانهمكت في مجهودات ترقيعية أو جانبية لم تفعل شيئاً سوى منح إيران الوقت لصنع حقائق على الأرض بعنف صادم ومتوحش حتى وقف الدب الإيراني على الأبواب. تعز سقطت بعد صنعاء، والحوثيون يزحفون إلى عدن. لا مجال للحديث عن «حوار» أو «تفاوض» مع قطاع طرق، وعملاء قوة أجنبية، والنظر إليهم بوصفهم «مكوناً يمنياً» لا يخدم سوى المشروع الإيراني التوسعي. بدت إيران لأول وهلة منتشية بلقمة صنعاء، لكنها الآن تشعر بغصة؛ لاسيما في ظل نزيفها المستمر في سوريا والعراق. وبالرغم من إدراكها حجم ورطتها إلا أنها ليست في وارد التراجع؛ ذلك لأن مشروعها في الأصل طائفي ضد السنّة، وشعوبي ضد العرب، وهو ما يجعله يحظى برضا أميركي وإسرائيلي، ولا عبرة بالخطابة.
كان تصريح وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، يوم الإثنين مهماً وغلبت عليه لغة الحسم: «الحل في اليمن»، لا يكون إلا «برفض الانقلاب (الحوثي) وكل ما ترتب عليه»، ولأن «أمن اليمن وأمن دول مجلس التعاون الخليجي.. كل لا يتجزأ»، فإن هذه الدول ستتخذ ما تراه مناسباً لصد «العدوان» إذا تعذرت التسوية السلمية. وزير الخارجية اليمني، رياض الياسين، أبلغ قناة الجزيرة أن حكومته طلبت تدخل قوات «درع الجزيرة» من أجل كسر الانقلاب، وأنها تلقت «رداً إيجابياً». أصابت هذه التطورات الحوثيين بالصدمة، لاسيما وهم يتخبطون في إدارة المناطق التي احتلوها. محمد البخيتي، من جماعة الحوثي، قال لقناة الجزيرة إن دول الخليج ستكون المتضررة من أي تدخل في اليمن مهدداً السعودية تحديداً بإسقاط نظامها، واحتلال نجد والحجاز، بحسب تعبيره. تهديدات البخيتي ليست إلا صدى لتهديدات طالما ترددت في طهران ضد الدولة السعودية، وما تسميه «الوهابية»، وهي في الوقت نفسه تعبير عن الصدمة والقلق من موقف سعودي «تدخلي» يلغي المكاسب التي حصدها الحوثيون في الأشهر الماضية. وبالرغم من عدم استتاب الأمر للحوثيين (يتعرضون لمقاومة شديدة آخرها كان سقوط 37 قتيلاً منهم في مواجهات بمحافظة البيضاء شرقي صنعاء، بي بي سي 18 آذار/مارس 2015)، إلا أنهم ساروا إلى تعز، ثالث أكبر مدن اليمن، والواقعة على مضيق باب المندب، واستولوا على مطارها ومواقع حيوية فيها يوم الأحد الماضي بمساعدة من قوات تابعة للرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح. أراد الحوثيون أن يجعلوا تعز نقطة انطلاق للزحف إلى مدينة عدن القريبة والتي تحولت إلى عاصمة جديدة بحكم الواقع، فاصطدموا بمقاومة شعبية ضارية، ما أسفر عن استشهاد 8 مواطنين، وإصابة 120 آخرين يوم أمس الثلاثاء، كما طرد المحتجون في بلدة التربة بمحافظة تعز «جميع مسلحي الحوثي» من البلدة بحسب قناة الجزيرة أمس، والمقاومة مستمرة في مدينة الضالع التي سيطر الحوثيون على أجزائها الشمالية صباح الثلاثاء، كما صدت المقاومة محاولة حوثية للتسلل إلى مدينة كرش بمحافظة لحج.
بلد الإيمان والحكمة ليس «قطعة كعك» كما تخيل المسكونون بالأحلام الفارسية والأحقاد الصفوية. واحتلال بلد عربي قبلي مسلح حتى الأسنان لن يكون نزهة. وتستطيع دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، من خلال قوات «درع الجزيرة» توفير الدعم العسكري والمعنوي للمقاومة اليمنية. قبائل إقليم سبأ (سنّة شوافع في محافظات مأرب والجوف والبيضاء) يمكنها الزحف إلى صعدة، وقبائل الجنوب يمكنها الزحف إلى صنعاء. ويستطيع الخليج المساعدة أيضاً بضربات جوية لمواقع الحوثيين. لا حاجة إلى التنسيق مع واشنطن في مسائل مصيرية كالحياة والموت. واشنطن خذلت دول الخليج في العراق وسوريا، ولا يمكن الوثوق بها في اليمن، ثم إنها «متعودة» ألا تحترم إلا الأقوياء. والمثل الأميركي السائر يقول: «القوة هي الحق».
العرب القطرية