حين تابعت فجر اليوم نص الشروط التي تضمنها مبادرة الزعيم المختفي "صالح" ورفيقه "الحوثي" المختبئ , التي قوبلت باستهجان محلي وإقليمي ودولي واسع النطاق .. وكأن الرجل يعيش خارج كوكب الأرض "صالح" الغير صالح والفاقد للذاكرة لم يتعظ من ماضيه السيئ ودروس تاريخ أمثاله من الطغاة.
عادت بي الذاكرة إلى وقائع تاريخية قريبة وهامة شهدها العالم برمته , جرت وقائعها مع أسوأ نظرائه من الحكام الطغاة ممن جثمت أنظمتهم الديكتاتورية الفاسدة ردحا من الزمن على صدور شعوبهم المضطهدة وقادوا بلدانهم بغرورهم وتشبثهم بالسلطة إلى الحروب المهلكة والدمار الكلي وأوصلوا أنفسهم إلى الهاوية.
أتذكر:
حين طوقت المقاومة الزائيرية العاصمة واحتلت مجلس الوزراء ومقر وزارة الدفاع كان الزعيم الاممي "نيلسون مانديلا" يقود مفاوضات اللحظة الأخيرة لوقف الحرب في زائير .. وكان يتوسط الجلوس بين الرئيس الزائيري الديكتاتور "موبوتو" وزعيم المقاومة الشعبية "جوزيف كابيلا" وكان "موبوتو" يعرض كرمه الحاتمي على "كابيلا" بمنحه رئاسة الوزراء والدفاع وغيرها .. كان "كابيلا" يستمع إليه بصمت وسخرية تامة .. حينها رد عليه "كابيلا" بقوة قائلا (أنا لم أآت إليك لأسمع شروطا .. بل لأسمع الطريقة التي تفضل الموت بها .. شنقا أم بالرصاص) ما جعل الوسيط "مانديلا" ينفجر من الضحك .. ويرمي بثقله كله طالبا من "كابيلا" تأمين خروج فوري وآمن للديكتاتور الخرف خارج البلاد وهذا ما جعل "كابيلا" أن يوفق له على مضض , كان فيه الفضل لشخصية ومكانة "مانديلا" الكبيرة لدى كابيلا ورفاقه .. وألا كانت نهايته هي التمثيل به في شوارع العاصمة الزائيرية.
وأتذكر أيضا:
وحين وصل إلى بغداد برا , المبعوث الروسي "يفغيني بريماكوف" رئيس الدوما "مجلس النواب" ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الروسي سابقا في ثاني زيارة لصدام عام 2003م واللقاء به قبيل بدء الهجوم البري عليه بسويعات , ليعرض عليه مبادرة الفرصة الأخيرة ناصحا إياه القبول بالمبادرة الإماراتية والخروج الآمن وعدم الملاحقة او المبادرة الروسية بالمغادرة برفقته إلى موسكو وترك العراق وشأنه وتجنيب بلاده الحرب.
أتذكر هذه الرواية بلسان يفغيني بريماكوف في لقاء خاص مع قناة الجزيرة القطرية , حيث قال مضينا أكثر من ثلاث ساعات دون نخرج مع صدام بنتيجة سوى كلمته الشهيرة التي كان يرددها لي باستمرار (سنجعلهم ينتحرون على أسوار بغداد) وكان حاضرا معنا السيد طارق عزيز وعندما أنهيت الحديث الثنائي الودي مع صدام حسين نهضت للمغادرة وكان طارق عزيز يقف بجوار صدام وهو يربت بيده على كتف صدام حسين ويناديني قائلا: ألم أقول لك ياصديقي العزيز عام90م بأنك ستعود والسيد الرئيس صدام على كرسيه .. وها أنت عدت اليوم وهو على كرسيه .. وستعود بعد عشر سنوات أخرى وهو على كرسيه .. قال بريماكوف لم أرد عليه واكتفيت برفع يدي وحييتهم مغادرا وأنا مصاب بالدهشة والذهول من ما يعتري الرجل ورفيقه من كبرياء وغرور ! وهذا هو حال معظم طغاة العالم من المتجبرين بالقوة والتشبث بتلابيب السلطة الديكتاتورية المطلقة ومغرياتها اللعينة.
ما عاد بي إلى استعراض هاتين والواقعتين ومبادرة "صالح" يذكرني بما آل إليه مصير "القذافي" أيضا , صالح الذي يقف العالم اجمعه محليا وإقليميا ودوليا مع عاصفة الحزم , وأغلقت عليه كل الأجواء والبحار والمنافذ البرية ومزقت وفتت قواته والحوثي إلى أشلاء متناثرة أمام ضربات العاصفة وصمود "المقاومة الجنوبية" ويختبي في مغارات سنحان مثله مثل الحوثي الذي توارى عن المشهد والخطابات الرنانة في كهوف مران .. لم يدرك بعد انه لم يعد أي اهتمام لمبادراته لا محليا ولا إقليميا ولا دوليا .. وربما لم يعد حتى بمقدوره اختيار الطريقة التي ينبغي أن يموت بها..
اللهم لا شماته !