أكثر من طرف دولي شارك في مخطط إيصال الحوثيين إلى هذا الوضع في اليمن، سواء بالدعم المباشر، أو بمجرد الصمت الذي كان يعني الرضا، ثم أكثر من طرف وضع خططه المستقبلية للتعامل مع هذا الوضع بعد وقوعه، الأمر الذي جعل المملكة تواجه ضغوطات متعددة الاتجاهات بشأن سياستها الحالية في اليمن.
أعلنت المملكة أنها عازمة بالعمليات العسكرية لـ"عاصفة الحزم" على إبعاد الكرة من منطقة الجزاء أمام مرماها ونقلها إلى منطقة الجزاء أمام مرمى الطرف الآخر "إيران"، إلا أن في تلك الأطراف الدولية من لا يزال يمارس عليها الضغوطات ويحاول مراوغتها وإقناعها بالاكتفاء بإبعاد الكرة عن منطقة الجزاء في ملعبها.
عندما أعلنت وقف عمليات "عاصفة الحزم" كانت واقعة تحت تأثير هذا الرأي الأخير، إذ ذهبت قيادة العاصفة إلى تبرير قرار التوقف بنجاح العمليات في إزالة كافة أشكال التهديد للمملكة من خلال تدمير السلاح القادر على تهديد أراضي وشعب المملكة.
استجابت لهذه الضغوطات لكنها لم تكن قد اقتنعت بذلك بشكل مطلق ونهائي، لذا أعلنت إغلاق أحد مصراعي الباب وإبقاء الآخر مفتوحا.
كان هذا إنجازا كبيرا لدبلوماسية الأطراف الساعية إلى صرف المملكة عن وجهتها، إذ تَحقَّقَ لها إغلاق أحد مصراعي الباب، والعمل جار الآن –ولو بالتدريج- من أجل إغلاق المصراع الآخر.
خرج "علي صالح" قبل أمس يطالب ضمن ما طالب به بحوار "يمني سعودي"، وبالطبع لم يكن يقصد الدولة اليمنية، لأن الدولة اليمنية تمثلها شرعية الرئيس هادي المقيم في المملكة والذي طلب منها التدخل، وإنما قصد حوارا سعوديا معه هو.
بأي صفة سيحاور المملكة؟ وما الذي يريده؟ وإلامَ يرمي؟ المهم في الإجابة على هذه الأسئلة أنه يهدف لتقديم نفسه بوصفه الطرف الممسك بالوضع والقرار الفعلي في اليمن، وتقديم السعودية محليا ودوليا كخصم وطرف، فينزع عنها شرعية التدخل على النحو الجاري الآن، خاصة وأن علاقته مع إيران ستكون قد وصلت في تلك الساعة إلى مرحلة لا يعود محتاجا معها إلى مراوغة ومداهنة المملكة، فضلا عن أنه مستميت اليوم على تحقيق مزيد من التقدم على الأرض وبما يرى أنه سيدعم تلك المواقف الدبلوماسية الضاغطة على المملكة.
ما الذي بوسعه أن يقدمه للمملكة في هذا الحوار الذي يطالب به؟ ربما يعرض عليها وساطته لتطبيع العلاقة بينها وبين الحوثيين؟ وهو ما لا تفكر فيه السعودية مجرد تفكير بعد كل الخطر الذي بدا عليها منهم، فضلا عن أن الرجل لا يريد خروج الحوثيين من يده بأن يكون لهم اتصال مباشر مع المملكة. وربما يريد أن يعرض عليها مجددا أن تدعمه لمواجهة الحوثي معولا منها على ردة فعل مختلفة عن المرة السابقة، وهو الأمر المستبعد قبوله من المملكة، تبعا لتجاربها السابقة معه، فضلا عن التجربة الحالية.
كل ما يتوقع أن يفعله للوفاء بهذا الالتزام على الافتراض جدلا بقبوله من المملكة هو أنه سيظل يبتز المملكة بالحوثيين، وللمملكة تجربة مريرة معه في ست حروب بدأت والحوثي في منطقة مران، وانتهت -رغم المليارات وأشكال الدعم السعودي- والحوثي على أطراف كل من الجوف وعمران وسواحل البحر الأحمر في ميدي، بل وبلغت التطورات في هذه الحروب إلى درجة أن صالح أوصل الحوثيين في الحرب السادسة إلى عمق الأراضي السعودية.
لقد حدث ذلك حين بدأ صالح حربه على الحوثيين في مران وكان يملك كل القوة العسكرية والشرعية الشعبية، فكيف سيكون الحال وكيف سيتعامل مع المملكة وهو يتعهد لها بمحاربة وإزالة خطر الحوثيين وهم في صنعاء وقد اجتاحوا أكثر المحافظات!؟
لن يفعل شيئا أكثر من مراوغة المملكة ريثما يوثق العلاقة التي بدأ إقامتها مع إيران منذ ثلاث سنوات، ثم يتنصل عن الاتفاق معلنا نهاية التحالف مع السعودية والتحول رسميا إلى إيران.
بل لم يعد بمقدوره أصلا السيطرة على الحرس الجمهوري وتوجيهه ضد الحوثيين، خاصة وأنه قد ملأ معسكرات الحرس خلال السنوات الثلاث الماضية بالمقاتلين الحوثيين، وعين أعدادا كبيرة منهم في مواقع قيادية، فضلا عن ما حدث المؤسسة الأمنية التي لا يمكن وصفها بأنها أقل من جيش مواز.
بالتأكيد أن هذا الاتفاق بينه وبين المملكة مستبعد جدا إلى درجة أنه يبدو ضربا من المستحيل، لكنه سيفعل الآن ذات الشيء وهو مختلف معها، أي مخاتلتها بالتوازي مع توثيق العلاقة بإيران وإحراز تقدم على الواقع العسكري، مستغلا المساحة الممدودة للعملية السياسية، والتي تمنحه الوقت وفرصة العمل الأريحي وتمكنه من التواصل مع مختلف الأطراف الدولية، كما تتيح له قدرا عاليا من المراوغة السياسية مع إحراز التقدم عسكريا في الميدان، أو على الأقل مجرد الحفاظ على وضعه العسكري كما هو، ومجرد حفاظه على وضعه العسكري يعد بمثابة تقدم، وذلك بالنظر إلى ما تخسره المقاومة الشعبية التي تخوض الحرب وهي محاصرة في لقمة العيش فضلا عما وراء ذلك مما يتصل بقضية الإمكانيات.
لقد أعلنت المملكة عن وقف الجزء الأكبر من عاصفة الحزم وإطلاق العملية السياسية في وقت مبكر جدا، وفي ظروف لا تساعدها على ضمان نتائج الأداء السياسي، بل ربما في ظروف هي أكثر مساعدة للطرف الآخر.
رغم ذلك، لا يزال أمامها متاح من الوقت يسمح لها بخطوات سريعة تغير بها الواقع على الأرض اليمنية، وهذا وحده ما سيرفع عنها الضغوطات السياسية من الشرق والغرب، وسيضمن لها صياغة واقع سياسي جديد.
إنها في مفترق طرق، وقيامها الآن بقلب المعادلة على الواقع اليمني هو القرار الذي سيحسم لها العملية العسكرية والسياسية معا، وسيعني أنها نجحت في إزالة الخطر العسكري عن أرضها، وسيتيح لها التعامل بعد ذلك بهدوء في سبيل إزالة خطر الإشعاع الفكري والتعبئة السياسية التي ستظل تتسرب إليها من اليمن، وهي بلا شك التهديدات الأخطر على استقرار المجتمع السعودي ونظام حكمه، خاصة وأن هذا النوع من التهديدات غير مشمول باتفاقيات الدفاع المشترك التي وقعتها مع أصدقائها من دول المنطقة والعالم.