نبيل البكيري
الجدلية المبكرة جدًا للحديث عن متناقضتي الوحدة والانفصال في هذه اللحظة، بين شمال اليمن وجنوبه، لا تعدو كونها أحد أسلحة الطرف الخاسر للمعركة والذي يريد من خلال هذه الجدلية أن يستعيد بعض خسائره، بالتحريش بين فصائل المقاومة بكل توجهاتها في هذا الظرف؛ لينفذ من خلال ذلك إلى ضرب فصائل المقاومة بعضها ببعض.
جدلية الوحدة والانفصال، جدلية سياسية وليست عسكرية على الإطلاق، والذهاب بها من مربع السياسة إلى مربع العمل المسلح هو جزء من استراتيجية الأطراف الخاسرة للمعركة السياسية والعسكرية معًا؛ لتخريب كل شيء وإشاعة الفوضى والاقتتال الأهلي بين فصائل المقاومة.
فيبادر المنهزمون الآن من خلال هذه الجدلية إلى تخليق وتأجيج حالة صراع يصب في صالح المنهزم أخلاقيًا وعسكريًا وسياسيًا وهو طرف الانقلابي المكون من ميليشيات الرئيس المخلوع صالح وجماعة الحوثي وحلفائهم في الجنوب الذين سهلوا دخولهم إليه.
ومن هنا باعتقادي، أنه من المبكر جدًا الحديث عن أي من هذه التوجهات، بالنسبة لمقاومة شعبية بدائية التسليح والرؤية والأهداف والتوجهات، تقاتل في بداية المعركة وأمام طرف يمتلك كل إمكانيات الدولة من سلاح ورؤى وعلاقات واستراتجيات أمنية وعسكرية، يستطيع من خلالها إعادة توجيه الهزيمة التي مني بها إلى انتصار كبير له من خلال أدواته المختلفة إعلاميًا وأمنيًا وسياسيًا ولو شارف على الهزيمة.
ومن ثم، وفي هذه اللحظة التاريخية المفصلية التي تمر بها اليمن، كطور انتقال من مرحلة إلى أخرى، يتسنى ويتوجب تخليق حالة وعي سياسي كبير يمكن من خلاله حلحلة الأزمة اليمنية المتراكمة بمعرفة الخلفيات الحقيقية والرئيسة لهذه الأزمة المتمثلة بفشل وجود الدولة ومشروعها الوطني شمالًا وجنوبًا قبيل الوحدة، وفي اليمن الموحد كله.
فالإشكالية الكبيرة اليوم التي تقف أمام الخروج من هذا المأزق التاريخي كامنة في حالة التسطيح التي يتم بها النظر إلى مسار هذه الأزمة، والافتراض بأن الإشكالية قائمة باستمرار الوحدة أو الذهاب إلى الانفصال كحل للاقتتال الجاري، وفي هذا تسطيح شديد لمسار القضية اليمنية الكامنة في غياب الدولة الحقيقية دولة المؤسسات والنظام والقانون، وهو ما فشلت كل النخب السياسية اليمنية في الوصول إليه شمالًا وجنوبًا.
فالإشكالية كامنة في هذا الفشل المزمن في إيجاد دولة لكل اليمنيين، فمثلما فشلت النخبة السياسية الجنوبية في إدارة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وفشلت نخبة الشمال في إدارة الجمهورية العربية اليمنية، وفشلت النخبتان في إيجاد دولة الوحدة اليمنية دولة النظام والقانون فيما بعد مايو 1990؛ فها هي نفس النخبة اليوم تعاود الظهور من جديد تكرارًا لمسلسل الإخفاق المستمر في إيجاد الدولة اليمنية.
الدولة في اليمن مغيبة بكل معانيها النظرية والواقعية، وسبب هذا التغيب شمالًا هو وجود ترسبات المذهبية “الزيدية” السياسية التي ترى أن “السلطة” بشقيها السياسي والديني يجب أن تكون حكرًا عليها بعد أن احتكرتها القبيلة الزيدية في يمن ما بعد سبتمبر 1962، وخاصة في ظل حكم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح؛ فها هي الزيدية المذهبية ممثلة بالحوثية تعود مجددًا لتعود باليمن إلى مربع الاحتكار المذهبي السلالي الذي ظل يحكم الشمال اليمني قرونًا من الزمن.
وكما هو الحال في الشمال، فهو الحال أيضًا في الجنوب؛ حيث فشلت تجربة الدولة فشلًا ذريعًا رغم نجاحها الكبير بداية من خلال إعادة توحيد الجنوب الذي تركه الاستعمار البريطاني ممزقًا ومجزءًا كمشيخات وسلطنات عدة، لكن التجربة السياسية للنخبة الاشتراكية فشلت بعد ذلك في إدارة الدولة في الجنوب نتيجة للصرعات المناطقية والجهوية بين رفاق النضال الجنوبي، وهو ما دفع بهذه النخب للارتماء في أحضان النظام المشيخي للشمال مع بداية تسعينيات القرن الماضي بإعلان الوحدة اليمنية.
فمثلما حكم نظام الرئيس صالح الشمال حاول بعد حرب صيف 1994 بتعميم تجربة حكم الشمال على كل اليمن، وهو ما تم بالفعل؛ فعمم نظامًا قبليًا متخلفًا على كل اليمن، ساهم بإعادة إنتاج كل العصبيات الجهوية والمناطقية والقبلية في الجنوب كما هو الحال في الشمال؛ مع فرق واحد: أن عصبويات الشمال ترتكز على مرتكزات طائفية مذهبية وعشائرية قبلية لا توجد لدى مثيلاتها في الجنوب والوسط على الأقل، ولكنها قد تؤدي نفس الدور في تدمير فرص قيام دولة مرتقبة.
عمومًا، ما يمكن قوله اليوم، إن الحديث عن الذهاب نحو الانفصال في ظرف كهذا لا يخدم سوى مشروع بقاء اليمن مصطرعًا ومحتدمًا تلفه الفوضى والضياع، ولا يخفى على المراقب أن بعض الأنظمة الخليجية ساهمت بشكل كبير في بقاء اليمن مصابًا بهذا النمط من الحكم القبلي وشجعت عليه كثيرًا، وهي اليوم تجنى ثمار سياساتها تجاه اليمن والمتمثلة بإفشال إيجاد دولة حقيقية في اليمن تكون عامل استقرار للجوار الخليجي الفسيفسائي والمنطقة والعالم بكله.
ما أريد قوله هنا، إن الانفصال والوحدة سيان في اليمن، في هذا التوقيت وهذه اللحظة بكونهما ليسا حلين دقيقين وناجعين للعقدة اليمنية المتمثلة بفشل وجود الدولة، الدولة الحقيقية الضامنة لحقوق مواطنيها وأمنهم وحرياتهم واستقرارهم ومعاشهم.
وقبل هذا كله، تكمن خطورة الحديث عن الوحدة والانفصال اليوم في وضع كهذا لم يتم فيه إنجاز الهدف الرئيس لهذه اللحظة، وهو إسقاط الانقلاب و التحرر الراهن من كهنوتية فاشية تحاول الجثوم مرة أخرى على صدور كل اليمنيين شمالًا وجنوبًا.
هذا الانقلاب الذي أفشل مرحلة تحول وانتقال حقيقي كانت ستشهده اليمن من خلال الحوار الوطني والذي كان يسعى للانتقال السياسي والديمقراطي في اليمن، والذي كان ستليه فعلًا مرحلة استفتاء طبيعي عن مصير كل اليمنيين وحدة أو انفصالًا، فدرالية أو كنفدرالية.
بالنسبة لي على الأقل، أنا أرى أنه من حق أي منطقة في اليمن أن تطالب بتقرير مصيرها، لكن هل سيكمن الحل هنا لهذه المنطقة أو تلك، هل ستنتهي مشاكل هذه المنطقة بإعلان انفصالها أم أن المشكلة ستزداد سوءًا؟ هذا السؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه قبل الحديث عن الوحدة أو الانفصال، وخاصة فيما يتعلق بايجاد دولة تصون كرامة وحرية واستقرار الإنسان اليمني في إطار هذه الرقعة الجغرافية المنفصلة أو تلك.
مشكلتنا كيمنيين اختصارًا شمالًا وجنوبًا، هي أن نخبتنا السياسية فشلت في إيجاد دولة حقيقية، وإنما أوجدت سلطات حاكمة دمرت كل فرص الذهاب نحو إيجاد الدولة، مشكلتنا في اليمن سياسية بدرجة كبيرة فإدارية بدرجة ثانية؛ ففي الأول يجب أن نغادر مربع الغلبة في الحكم باسم المذهب أو القبيلة، وإداريًا ينبغي أن نسعى لإيصال الكفاءات الإدارية بعد حل الإشكال السياسي ديمقراطيًا إلى سدة الحكم لإدارة مقدرات البلاد الكبيرة وإخراجها من مصاف الدولة الفاشلة، وهذا لن يتأتى إلا وفقًا لمعادلة سياسية جديدة يكون كل اليمنيين شركاء فيها وليسوا تابعين لمنطقة أو قبيلة أو مذهب، وإنما شركاء وطن ومواطني دولة.