عارف أبوحاتم
النخبة السياسية اليمنية بشقيها السلطة والمعارضة ولدت شائهة تعاني من تشوهات في العقل والجسد..
إن اتهام المعارضة للسلطة بالعجز والفساد أو اتهام السلطة للمعارضة بالغباء وانعدام الخبرة، هو هروب من المسؤولية وتنصل من استحقاقات المجتمع، فالمعارضة الفاعلة هي ما تنتج سلطة قوية وقادرة لأنها تجعل الأخيرة تحت مرصدها، تحسب وتفكر قبل كل خطوة تخطوها، والسلطة القوية هي التي تجبر المعارضة على الارتقاء بأدائها إلى مستوى أداء السلطة..
يروي الزميل نبيل الصوفي - وهو حالياً السكرتير الإعلامي للرئيس السابق علي عبدالله صالح- إن صالح قال في 2002 للقيادي الاشتراكي المعارض جارالله عمر: «لو كنت على رأس هذه المعارضة لأسقط هذا النظام».. هذه الجملة السياسية كثيفة المعنى وعميقة الدلالة، فمن ناحية صالح يقر بفساد نظامه وأنه هش قابل للسقوط، إذا ما وجدت معارضة قوية، ومن ناحية أخرى لا يرى في المعارضة غير كومة قش أضعف من أن تحرك ساكنا أو توقظ نائما.
وفي ذروة المنافسة على كرسي الرئاسة في انتخابات 2006 كان مرشح أحزاب المعارضة «اللقاء المشترك» المهندس الراحل فيصل بن شملان قد احتك بقيادة المعارضة لفترة قصيرة جعلته يصل إلى نتيجة عميقة: «الشعب سيسبق الأحزاب إلى إسقاط هذا النظام».. وفعلاً حين لاحت نُذر الربيع العربي ذهب الشباب إلى ساحات وميادين التغيير وبعد نصف شهر من تخييمهم وترديد عبارات إسقاط النظام بصلابة وقوة، لحقتهم الأحزاب، وانضمت إليهم، ولاحقاً ركبت على ثورتهم وصادرتها، ووقعت المبادرة الخليجية وهي لعنة أصابت الثورة بمقتل، وتم قسمة الثورة بين الضحية والجلاد، وتقاسم مقاعد الحكومة الـ34 السلطة والمعارضة، ومنح صالح حصانة كاملة عن كل جريمة ارتكبها.. وهذا ما جعله يعود قاتلاً ومجرماً.. وواثقاً أيضاً!!.
عمق المشكلة يكمن في أن الأحزاب والتنظيمات السياسية في اليمن ولدت عليلة وضعيفة، واستمرت تقاوم الحياة وتسعى إلى السلطة، دون أن تأخذ شيئاً من الوقت تداوي علاتها، وتراجع أداءها.. لقد ولدت بمسمى أحزاب، دون أن تملك رؤية أو فكرا أو مشروعا، بل امتلأت بالغياب والعصبيات والتحالفات القصيرة المنتجة لوهم القوة، وليس للقوة الفاعلة، وظلت كذلك، ولا يمكن القول إنها ولدت قوية وهرمت وتآكلت، بل كانت سقيمة شائهة منذ الولادة..
لنفكر، من هو الحزب الذي يملك رؤية سياسية في كيفية قيادة الدولة، وتجديد رؤية سياستها الداخلية والخارجية ؟ ومن الحزب الذي يملك مشروعاً اقتصادياً يمكن التعويل عليه لإنقاذ البلاد ؟ والمشروع الاقتصادي ليس بالضرورة أن يكون مصانع ومستثمرين، بل يجب استثمار علاقة الإنسان اليمني بالأرض، وإعادة الانتاج الاقتصادي للقبيلة اليمنية. ومن الحزب الذي استوعب خريطة التحالفات القبلية والاجتماعية ويستطيع تفكيك عقد الصراع، واستثمار العقيدة الاجتماعية للإنسان اليمني والاستفادة بجعلها احدى أدوات بناء الدولة والمجتمع ؟ حتى في الجانبين الصحي والتعليمي لا حزب لديه رؤية وبرنامج للقضاء على الأمية، أو إيقاف حمام الموت المنتشر بسبب الأمراض في الأرياف والمدن.
التنمية لها مفاتيح متعددة، وعقول جميع الأحزاب اليمنية أقفال بلا مفاتيح.. سأعود مرةً أخرى للحديث عن الصحفي الأميركي توماس فريدمان حين تحدث عن سبب نهضة مديريات نائية في كينيا بسبب تفكير فتاة بجلب الفوط الصحية لقريناتها، فكانت «الفوطة» مفتاحا للتنمية.. فقد كان من العار على الفتاة أن يرى الناس دم دورتها الشهرية حتى ولو كانت بنات جنسها، فتضطر أن تغيب بين 7-10 أيام في الشهر، وحين أثر ذلك على دراستهن تركنها بالمرة، عدا فتاة واحدة كانت أسرتها ميسورة الحال وتستطيع أن تجلب لها الفوط الصحية من العاصمة، هذه الفتاة التي أصبحت سكرتيرة في شركة كبيرة أسست جمعية لجلب الفوط الصحية لفتيات المدرسة في ريفها، فتعلمن وتخرجن وأصبحن أدوات انتاج وتنمية.
وقصة أخرى يرويها «فريدمان» تتحدث عن امرأة تمكنت من شراء هاتف محمول تتمكن من خلاله معرفة أسعار المواشي في المناطق المجاورة، حيث كان التجار الكبار يوهمون النساء بأن سوق المواشي راكد ويشترون بضاعتهن بأبخس الأثمان.
التوقف عند هاتين القصتين ونحن في سياق الحديث عن الأحزاب اليمنية يستدعي سؤالاً واحداً عن ماهية رؤية الأحزاب للمعضلة الاقتصادية في اليمن.
ورؤيتها للتعليم والبحث العلمي، ومحو الأمية الأبجدية، والأمية التقنية، والتعليم التقني والفني، ورؤيتها للحد من شجرة القات، وايجاد البدائل.. لا أعتقد أني قد قرأت شيئاً من هذا في برامج الأحزاب اليمنية.
وتبقي ثلاثة مجالات هي عورات لكل حزب في اليمن، بل وعورة للسلطة الحاكمة والمنظمات المدنية وكل المجتمع؛ وهي الفني والثقافي والرياضي.. حيث لا يستطيع أي طرف أو جهة أن تزايد وتقول إنها فعلت أو قدمت شيئاً يذكر لتنمية هذه المجالات.. هذه ضمن ثقافة المسكوت عنه.
وإذا كانت الأحزاب اليمنية قد انصرفت أو بالأصح انجرفت كليةً إلى السياسة فستكون الديمقراطية عورتها.. إذ تطالب بتعزيز المسار الديمقراطي وترسيخ قيم الديمقراطية كالحرية والمساواة ونبذ العصبيات إلا أنها لم تجترح أي خطوة ديمقراطية في صفوفها، فهذا المؤتمر الشعبي العام الذي حكم البلاد 30 سنة لا يزال علي عبدالله صالح رئيسه منذ نشأ في 24 أغسطس 1982، وحزب الإصلاح ظل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيسه منذ نشأت الحزب في 13 سبتمبر 1990 حتى وفاة الأحمر في 29 ديسمبر 2007، وحزب البعث الموالي للعراق لا يزال رئيسه قاسم سلام منذ نشأت الحزب قبل أكثر من 40 سنة، ونظيره الموالي لسوريا تولاه عبدالوهاب محمود منذ انشق عن الأول في 1993.
وغير جمود رؤساء الأحزاب؛ هناك إشكالية أخرى تتمثل في أمناء العموم، فمنذ إعلان التعددية السياسية في اليمن الموحد في مايو 1990 نجد أن جميع أمناء عموم «الوحدوي الناصري» من تعز، وجميع أمناء عموم «الاشتراكي» من الجنوب، وجميع أمناء عموم «الإصلاح» من صنعاء، والتنوع الجميل الذي كان في أمناء عموم «المؤتمر» لا يحسب لديمقراطية الحزب، لأنهم لم يأتوا إلى مواقعهم بأدوات الديمقراطية بل برغبة صالح..
وإضافة لذلك هناك أحزاب لم تعقد مؤتمرها العام وتجدد في قيادتها منذ أكثر من 15 عاما.
وإشكال ثالث في الفكر والنشأة، حيث تعتبر جميع الأحزاب اليمنية الفاعلة امتدادا لأحزاب خارجية، باستثناء المؤتمر الشعبي العام الذي نشأ في شمال اليمن كحزب أوحد يضم تحت سقفه جميع التيارات السياسية، وحين جاءت الوحدة حاملة على اكتافها التعددية السياسية عاد كل إلى موقعه معلنا حزبه الفعلي.
وتعد الدوائر التنظيمية الأكثر ركوداً في الأحزاب اليمنية، إذ لا منهج فاعلا بخصوصية يمنية، ولا فكر بصبغة وطنية، ولا عمل منظما ومنتظما، وغالباً ما تكون التعيينات والترقيات داخل دوائر الحزب وفق معيار الذاتية والشخصنة، وليس الكفاءة والقدرة والمؤهل..
وجميع الأحزاب اليمنية بلا استثناء لا تعمل بشكل مؤسسي ولا يفكر قادتها بمستقبل أحزابهم بل بمستقبل ذواتهم، فلا مؤسسات علمية وبحثية تتبع الحزب، ولا مراكز دراسات، ولا وسائل إعلام قوية في أدائها وبنيتها، ولا استثمارات تضمن للحزب الديمومة والبقاء، فهذا المؤتمر الحاكم لأكثر من 30 سنة لم يتمكن من تمليك صحيفة حزبه مقراً ومطبعة، وهو الذي مكن مسؤوليه من امتلاك فلل وشركات وأرصدة في الداخل والخارج.. فكيف ببقية الأحزاب؟!.
إن أحزاباً بهذه الكيفية والعقلية والأداء ستأخذ دورتها الطبيعية وتتآكل وتنتهي.. غير مأسوف عليها.