البحث عن عاصمة بديلة لوطن تحت الأنقاض.

2015/10/18 الساعة 01:47 صباحاً
يقع حي كريتر، حيث منزل ياسين مكاوي ، جوار حي التواهي. من حي التواهي عاد مكاوي، مستشار الرئيس، إلى الرياض بعد أن فشل في إقناع التحالف بفكرته التي تقول إن تنقله بين الحيين يتطلب عربة مصفحة. ياسين مكاوي جنوبي صميم، وكان الممثل الأبرز للحراك الجنوبي في فترة الحوار الوطني. غير أن الرجل عاد إلى الرياض بتلك العبارة الكئيبة: عدن غير آمنة. ولم يجد صعوبة في إقناع التحالف بمصداقية تلك الجملة، فلديهم صورة شاملة عما يجري في العاصمة المؤقتة. يرفض السياسيون اليمنيون العودة إلى عدن ويطلبون من التحالف تحرير محافظة أخرى يتوقع منها أن تكون مدينة لكل الناس: تعز. العاصمة المؤقتة، عدن، فشلت حتى الآن في أن تكون عاصمة مؤقتة واكتفت بكونها مدينة محررة. حصلت عدن على فرصة كبيرة تتناسب مع تاريخها وطبيعتها، لكنها فتحت الأبواب الخاطئة. يُراد لعدن، من قبل جهات داخلية تنسب نفسها إلى المدينة، أن تكون طاردة. إذ أن فعل الطرد، كما يُعتقد، سيكرس على الدوام حقيقة التحرير. تخلط جهات كثيرة في عدن بين فكرتي التحرير والاستقلال. في عملية الخلط نفسها ينشأ اللانظام باعتباره استعادة المدينة لهويتها وحقيقتها. المدينة التي أريد لها أن تكون طاردة للأغيار، أي الشماليين، تصير يوماً عن يوم طاردة لعناصر الحياة نفسها. حتى الرئيس هادي نفسه عاد من أميركا إلى الرياض، وترك عدن تفتح الأبواب الخاطئة وتغلق الطرق التي فتحتها قوات التحالف. عدن مدينة لا تقبل الضجيج، ولا تختار طريقه. لكن الضجيج عرف طريقه إلى عدن في النصف قرن الأخير مرات عديدة. الضجيج والحرب تبادلا الأماكن في عدن وخسرت المدينة سمعتها التاريخية، خسرت جاذبيتها وسكينتها، وبعد حوالي نصف قرن من تحريرها لم يهتد إليها المستثمرون الدوليون بل الحوثيون. المجتمع العدني الراهن متعدد الأهواء السياسية، وربما تميل غالبيته إلى السكينة وتنحاز إلى الخيارات الآمنة. دفعت المدينة كلفة باهضة كنتيجة لأهميتها، وتقاتل على عدن قادمون من خارجها. بعد أن دفعت كل تلك الكلفة كانت قد أصبحت عاجزة عن خلق الوظائف وجذب الأموال. الأخبار القادمة من عدن، راهناً، تشير إلى انتعاش ظواهر العنف على نحو متصاعد. ضربات القاعدة صارت تغطي قطاعاً كبيراً من المدينة. ثمة ثغرة أمنية كبيرة في عدن تحاول قوى ما بعد التحرير الإبقاء عليها. في تلك الثغرة تتحرك القوى بوصفها قوى الاستقلال، وسيدة الموقف. غير أن الثغرة الكبيرة لا يمكن ردمها بالفوضى واللانظام. الإحالة إلى صالح والحوثي على أنقاض اللانظام الحالي في عدن هو هروب مدروس من الحقيقة. إذ الحقيقة تؤكد احتياج المدينة الطارئ إلى نظام، بالمعنى الأمني والسياسي والاجتماعي. تحتاج عدن إلى استرداد عافيتها، لأن تصبح مدينة قادرة على خلق الوظائف. لا تطمح مدينة في العالم لما هو أكثر من هذا: أن تكون قادرة على الخلق الوظائف، أي على إفراز طبقة وسطى. الطبقة الوسطى الناتجة ستكمل دائرة الجمال: من الثقافة إلى الفن، ومن الصناعة إلى كرة القدم. أي ستخلق هوية جديدة للمدينة لا تتناسب مع تاريخها وحسب بل مع مستقبلها. لكن عدن الآن رهينة أهواء بلا خيال، وضلالات كئيبة، ورجال يدركون في أعماقهم أن عدن الحديثة لن تكون ناقة لهم، بل للكفاءة والجدارة. وأولئك قادمون من التاريخ، والمدن ملك لمن يطلعون من المستقبل. إصرار التاريخ على الاستحواذ على المدن يقوضها، وهذا يحدث في كل مكان. عدن الآن في طور التقويض الثاني. عندما سيطر الحوثيون على صنعاء قال علي ناصر محمد، أحد الذين شاركوا في إحراق عدن في ثمانيات القرن الماضي، إنه يطمح لصيغة سياسية جديدة بين "شعب الجنوب" والحوثيين. كان العطاس، مستشار الرئيس الحالي، قد خرج على وسائل الإعلام مخاطباً الحوثيين "مبروك عليكم ما حصلتم عليه في الشمال". منح العطاس الحوثيين اليمن السياسي، أما ناصر فقد منحهم المجتمع الشمالي أيضاً. ولم يمض سوى وقت قريب حتى كان الحوثيون يحتلون منزلي الرجلين في الجنوب. توجد نسخ صغيرة من الرجلين حالياً في عدن، وتلك تعمل على تقويض كل شيء، أي تقويض عدن. عدن التي بمقدروها الآن، وقد صارت عاصمة مؤقتة، أن تجلب الأموال الطائرة من الخارج وتخلق الوظائف وتقدم نموذجاً متسارعاً للمدينة المعاصرة. قبل ثمانية أعوام قال باصرة، وزير التعليم آنذاك، إن المواطن في عدن يصبو لأن يرى المدرسة الحديثة وإشارة المرور والشارع النظيف. وأن تلك الأمنيات المادية الحديثة هي ما يغريه لا الأعلام ولا القصائد. كان باصرة يتحدث عن عدن الحديثة. غير أن عدن الراهنة، عدن ما بعد التحرير، تغلق الأبواب على نفسها وتغرق في الظلام..