التسارع الكبير في الوقائع الميدانية والسياسية باليمن مؤشر متجدد على التشابكات المتعددة في الشأن اليمني، والذي لم يعد شأناً داخلياً صرفاً بحسب التوصيفات النمطية للصراعات البينية الداخلية، وما كان للأمر أن يكون كذلك لولا أن النظام السابق للرئيس علي عبد الله صالح مهد لتدوير الشأن الداخلي اليمني على قاعدة التشابكات غير الحميدة مع الداخل والخارج معاً. فمنذ ذلك اليوم البعيد القريب الذي بادر فيه إلى تسجيل زيارة استباقية للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ليمنحه صك القبول الناجز بالتدخل الجوي في اليمن، أظهر تهافتاً متسارعاً، وقبولاً مجانياً بالمشاركة الطوعية في الحملة الأمريكية لمحاربة الإرهاب عبر بوابة اليمن، ودونما اعتبار لمجلسي الشورى والنواب، وحتى شركاء العملية السياسية.. يومها تساءل الكثيرون عن ذلك التجاوز المعلن لمفاهيم السيادة والقانون الدولي، لكن المتسائلين الحائرين سرعان ما وجدوا الجواب الناجز الشامل عند صالح الذي لم يتوقف عند حد التنازل الإجرائي المتجاوز للبرلمان والدستور اليمني، بل شرع في تدوير آلة القرصنة الإقليمية البحرية، مهدداً دول الجوار البحري العربي بالويل والثبور وعظائم الأمور.. والشاهد على ذلك جولته المكوكية في البلدان العربية المتشاطئة عند حوض البحر الأحمر، ومطالبتهم بتمويل إقامة مركز إقليمي لمكافحة القرصنة عند مدخل باب المندب.. لكن الدول العربية المعنية بالأمر لم تأخذ تهديدات صالح بمحمل الجد، فإذا بها تفاجأ بالقرصنة البحرية، وكان صالح العليم، بل المدير الأعلى للقرصنة البحرية.. كان الوحيد الذي طالب مصر والسعودية وجيبوتي والسودان بتفويضه مالياً وعسكرياً وأمنياً لاستباق القرصنة القادمة وتقويضها قبل أن تباشر عملها، لكن دول المحيط البحري العربي لم تكن تثق بأقواله، لمعرفتها الدقيقة بمآربه وسيرته.
ما يهمنا في هذا الاسترجاع هو دأب صالح على تجاوز قواعد اللعبة الإقليمية والدولية وتوريط اليمن في معادلات فوق وطنية، حتى إنه تلاعب بالجميع وهو يشرف على إدارة الإرهاب في البر والبحر والجو، فيما كان يزعم بأنه الوحيد القادر على مكافحة الإرهاب، وكان يسوق في الداخل والخارج صورة مغايرة لما كان يفعله، ففي الوقت الذي منح الأمريكيين حق القصف الجوي في اليمن، كان يرعى زعامات القاعدة، ويعيد تدوير خرائبهم منذ حرب الشمال والجنوب في عام ١٩٩٤.. حيث اعتمد على فيالق المجاهدين القاعديين في اقتحام مدينة عدن.. ثم استخدمهم مراراً وتكراراً لإرسال بالونات اختبارات محلية ودولية من خلال سلسلة من الشواهد التي كشفت نواياه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تسليم أهم معسكرات محافظة أبين للقاعدة، والتسليم الكيدي لحضرموت الساحل ومدينتها الكبرى المكلا.
هذا السجل الحافل بتوريط اليمن في المعادلات الإقليمية والدولية الساخنة كشف أوراق صالح التي اعتقد أنها مخفية على العالم، وبهذا المعنى جاء التخلي العربي والدولي عنه بمثابة شهادة دامغة لمعرفتهم بأسلوبه ومناوراته التي تجاوزت قواعد اللعبة الدولية، وكانت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي كرماء جداً في منحه المبادرة الخليجية وما انطوت عليه من خروج مشرف، لكنه ظل قابعاً في مربع استيهاماته، ولم يدرك المغزى العميق لتلك الرسالة الكريمة التي نالت قبولاً يمنياً كبيراً، ومباركة دولية جماعية. ما حدث بعد ذلك من تحالف عربي مسيج بالشرعية والجيش الوطني والمقاومة جاء رداً بليغاً وضمنياً على تجاوزات صالح ومن ناصره في الوقت الضائع، ويحدوني اليقين التام بأن من سايروه خلال الفترات الماضية سيعضون أصابع الندم، وخاصة المخدوعين منهم، والذين راهنوا على سراب بقيعة.. متناسين أن التاريخ لا يعيد إنتاج نفسه إلا بصورة تراجيدية، وهذا ما حدث ويحدث الآن.
صالح هو أول من رهن اليمن لبورصة المساومات واللعب على كل الحبال، وظل يتذاكى على العالم، ويمعن تخريباً وتدميراً لبلاده، وها هو يتوج تاريخ متاهاته بتدمير المدن، وتمزيق اللحمة الوطنية، وفتح الباب واسعاً لكل المتطرفين الناعقين، بغض النظر عن طيوف ألوانهم وتعارض خطاباتهم. الآن وقد ظهرت الحقائق ناصعة لا سابق لها يجدر بالمخدوعين الواهمين أن يلتحقوا بركب المستقبل وأن يعيدوا النظر في حساباتهم الخاطئة، ففي اليمن الجديد الرشيد مكان واسع لكل مواطن صالح، وفي التحالف العربي الاستثناء رسالة ذات مغزى لمن كان له عقل وقلب، وما زالت العملية السياسية الناجمة عن المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني ومشروع الدولة الاتحادية العصرية الخيار العاقل والناجز لترصيف الدرب نحو مستقبل يقطع الطريق على كل من يغرد خارج السرب المنطقي للتاريخ والجغرافيا والحكمة.
-