مروان الغفوري
ــــــــــــــ
تقدم إيران دعماً كبيراً للميليشيات الإرهابية في اليمن، باعتراف كبار القادة الإيرانيين. أما دول الخليج، على النقيض، فتسعى لأجل تشكيل جيش يمني بديل بعد أن تفكك الجيش الأول وتحول إلى عصابات. وفي أكثر من مكان تعمل إيران على مستويات تحت دولية، وتمد جسورها داخل الدول في الظلام، وهو ما لا يمكن مقارنته بالسياسة الخليجية القائمة على احترام النظام العالمي وتبادل المنافع. فبينما تعقد السعودية صفقات مع فرنسا لشراء السلاح للجيش اللبناني تتجه إيران جنوباً، إلى أدغال الميليشيا اللبنانية وتختفي عن الأنظار.
الحركة الحوثية هي حركة طائفية في الأساس. وهي لا تسعى لمجرد الاستحواذ على السياسة والأمن بل لما هو أبعد ذلك "إلى تحقيق السيادة الثقافية والفكرية" بحسب تعبير الناطق الرسمي للحركة محمد عبد السلام. ليس من معنى لتلك الجملة التي ترد على لسانه منذ العام ٢٠٠٧ مصحوبة بحديثه عن "الهوية" سوى سيادة المنطق السياسي للطائفة، والتطييف الإجباري للمجتمع. كذلك لتحقيق امتثال إجباري لمُراد الإله الذي يعبر عنه عبد الملك الحوثي، كما يقول هو شخصياً. فقد سبق أن رحل آلاف السلفيين من منازلهم التي تقع إلى القرب من منزله. كان منظراً مهيباً وموحشاً، وكانت جريمتهم أنهم يتصورون الإله على نحو مختلف.
خلال الأشهر الماضية شهدت المحافظات اليمنية الواقعة تحت الهيمنة الحوثية احتفالات رسمية حوثية بمناسبات لا نعرف كيف عثروا عليها. مثل وفاة الإمام علي، وفاة الإمام زيد، وفاة الإمام الهادي، مقتل الحسين .. إلخ. تترافق تلك الاحتفالات مع دعوة عامة لإحياء الثارات مع التاريخ، وتصفية المسألة التاريخية مع السلالة المعاصرة لأعداء غابر الأزمان. المنطق الذي تحدث به المالكي في العراق عن "المعركة المستمرة بين أبناء يزيد وأبناء الحُسين" هو ذلك الذي يسوقه الحوثي في إعلامه وجبهاته. خصوم الحوثي، كل خصومه، هم داعش. لا يجرؤ على إطلاق تلك الصفة على خصومه من داخل المذهب. بمعنى آخر: فكل تصور عقائدي للعالم والحياة والدين هو جريمة قاتلة تستحق الفناء، واسمُها داعش. أنا أحد الكتاب الذين يطلق عليهم إعلام الحوثي "كتاب داعش". فقط لأنه يعتقد أني أنتمي إلى جغرافيا لم ترحب بتصوراته العقائدية، ولا بمشروعه السياسي. كل العقائد غير الحوثية جريمة، وكل جرائم الحوثي جهاد. أما حركته فتخلط السياسة بالسلاح حتى يتعذر الفصل بينهما.
يغلق الحوثي الحياة بتلك الطريقة السوداء في مجتمع لا يزال يعيش في ما قبل الحضارة، وعلى أنقاض دولة كانت لا تزال في طورها الجنيني قبل تفككها. ولأنه أقلية مذهبية، بالمعنى الديني الخالص، ولا يتحرك سوى بالسلاح داخل مجتمع يعتقد أنه لم يعد يملك سوى عقائده، أو دينه، فالحوثي يسعى لتفجير المجتمع من الداخل وإحراق النسيج الاجتماعي كلياً. لقد فعل ذلك، وانهارت أعمدة الحكمة اليمانية أمام مدافعه ودباباته. غير أنه يتجه بعيداً في سبيل إنتاج نسخة خاصة من داعش ستقضي عليه وعلى المجتمع اليمني برمته، وسيخلق تلك الصورة التي تخوفت منها مجلة النيوزويك في العام ٢٠١٠: أفغانستان على البحر.
استمعت، بشكل مباشر، إلى تودنهوفر داخل جامعة إيسن، غرب ألمانيا. كان الصحفي الألماني الأشهر ضيفاً على الجامعة للحديث عن تجربته "داخل تنظيم الدولة الإسلامية" وعن كتابه الذي حمل ذلك الاسم. قال تودنهوفر إن ١٣ عاماً من الاستبعاد والاحتقار والإذلال التي مارسها نظام المالكي في العراق لم تخلق فقط داعش بل خلقت حاضنة اجتماعية للتنظيم الإرهابي. وأن تنظيم داعش يقدم نفسه لدى فئة من المجتمع العراقي باعتباره القوي الذي سيمرغ أنف أعدائهم بالتراب، ويكسب تعاطفهم لذلك.
تركوا وحيدين وكان داعش هو الحل الوحيد الذي منحته إياهم حركة التاريخ. هذا ما أراد أن يقوله تودنهوفر، الخبير بتنظيم داعش.
الجيد في حرب اليمن، وليس في الحروب من أمر جيد سوى انتهائها، أن السعودية وحزب الإصلاح اليمني تصدوا لمواجهة المد الحوثي الطائفي المسلح، وانضمت إليهم جهات وطنية أخرى ودول. بكثافة حزب الإصلاح ومعرفته بالبنية الاجتماعية اليمنية وتوغله داخلها استطاع أن يغلق الطرق أمام داعش. بالنسبة لقطاع واسع من اليمني الاعتيادي فالإصلاح، وهو حزب سياسي ذو منشأ ديني، سيحرس عقائده أيضاً، فلا حاجة لانتظار آخرين. ذلك أن طبيعة الحرب في اليمن، في تجلياتها كلها، هي طبيعة دينية من الجهة التي يقف عليها الحوثي وطبيعة وطنية من الناحية الأخرى. فقد دشنها الحوثي في خطاب "الفتح المؤزر" الشهير، وهاجم تعز وعدن بكتائب الحسين، ومنح مقاتليه درجة "مجاهد" وخصومه منزلة "عملاء إسرائيل وأميركا". وفي كل مراحل الحرب كان الوطنيون اليمنيون يؤسسون جبهات "مقاومة" وجيش وطني. لا يعرف اليمنيون من قتل الحسين، ولا يعتقدون أن تلك مشكلتهم في القرن الواحد والعشرين.
قادة الإصلاح، وهم يتركون خلفهم ربع قرن من النشاط السياسي، يدركون أنهم سيكونون ضحايا داعش. فهو تنظيم خاض حرباً حتى مع أمه الكبيرة "القاعدة". قدم حزب الإصلاح خطاباً مقاوماً يتحدث عن "الدفاع عن الوطن" كما يردد قائد المقاومة الشعبية الأشهر في اليمن حمود المخلافي. ومن الأعلى كانت بيانات الإصلاح تتوالى كبكائية ملحمية حول انهيار مشروع الدولة والسلم الأهلي. الأمر الذي أقنع التشكيلات السياسية الأخرى، مثل التنظيمات اليسارية القومية والماركسية، بالوقوف إلى جوارهم في معركة عسكرية ضد الحوثيين باعتبارهم خطراً أمنياً عالي التصنيف. فبحسب قيادي رفيع في الحزب الاشتراكي فقد سقط للحزب في تعز فقط أكثر من ١٥٠ شهيداً من كوادره التنظيمية. أما الأمين العام للتنظيم الناصري فهو يزور الجبهات العسكرية ويتحدث إلى حملة السلاح ويعد المقاومين بالمزيد من الدعم العسكري الخارجي.
في الجنوب، حيث دائماً توجد بيئة خصبة لنشوء ظواهر التدين العنيفة، قاتلت المقاومة الشعبية بمعية التحالف، وانهزمت. مما اضطر التحالف إلى دخول الحرب البرية وحسم المعركة. لو تأخر التحالف، يمكننا قول ذلك، لتحول الجنوب إلى منصات لنسخ جديدة من داعش. فباستثناء قاسم الريمي فإن غالبية قيادات وكوادر تنظيم القاعدة في اليمن يطلعون من الأراضي الجنوبية. حاولت واحدة من رسائل السفارة الأميركية في العام ٢٠٠٩ شرح الظاهرة، كما نشرها ويكيليكس، متوصلة إلى استنتاج يقول إن البيئة المتدينة في الجنوب تمثل بطريقة ما حاضناً للحركات الدينية العنيفة، وتجد فيها تلك الحركات فرصة للتوغل.
لا يبدي الحوثيون حتى الساعة ندماً على إشعالهم لهذه الحرب. على الضد من ذلك، فقد دشنوا طوراً جديدا من التعبئة الإجبارية تحت مسمى "وثيقة الشرف القبلي". وكالعادة: تعبئة مشفوعة بأعلى درجات الشحن الديني الطائفي.
وفي حال قرر التحالف العربي إنهاء عملياته العسكرية في اليمن فإن اليمنيين سيجدون أنفسهم فرادى في مواجهة مد مسلح ذي طبيعة مذهبية، يحصل على السلاح من الخارج على نحو مستمر. ستنهار جبهات المقاومة، كجبهات واضحة جغرافياً وعملياتياً، وسيتحول المقاومون إلى شكل آخر: حرب استنزاف، أو حرب البراغيث. سيرتدون الأقنعة، وتحت ضوء جرائم الحوثيين في المناطق المهزومة سيرد المقاومون، الذين سيخفون وجوههم وأسماءهم، بسلاسل واسعة من العمليات العنيفة. وبدلاً عن مسمى الجيش الوطني، سيشكلون كتائب القعقاع، وسرايا عكرمة.
وما هو أكثر فداحة من ذلك: فإن حرب الاستنزاف تلك ستقوم بها الأكثرية ضد الأقلية!
وما لم يرجع الحوثيون إلى الوراء ويلقون السلاح فنحن، كيمنيين، موعودون بمزيد من التقويض التاريخ للتاريخ والمجتمع. ومع الأيام ستبرز نسخة يمنية من داعش، وستكون مطلة على البحر. وسيكون كل شيء قد تأخر إلى الحد الذي لن يعود معه أي إصلاح ممكناً.
عن صحيفة الوطن القطرية