موجة تصالحية تسود الإقليم، على الرغم من حرارة الأنباء اليومية، وعواجل الفضائيات الإخبارية التي لا تتوقف لحظة.
فجأة، ظهر في لبنان رئيس تصالحي، بعد أشهر محمومة من مسلسل تأجيل الجلسات البرلمانية، المخصصة لانتخاب رئيس، بحجة عدم اكتمال النصاب. يطفو اسم سليمان فرنجية، وهو المنسي الذي لا يتمتع بأية مواهب، سوى أنه حفيد رئيس سابق، ووريث حزب له شكل الإقطاعية، وتحاول الأغلبية، أخيراً، تعويمه في الإعلام، لغايةٍ ربما تعتمد على أنه صديق "شخصي" لآل الأسد.
وفي اليمن، يعلن الحوثيون موافقتهم على وقف إطلاق النار، ويذهب وفدهم إلى مؤتمر جنيف 2 للسلام المنعقد برعاية الأمم المتحدة، بعد إعلانهم عن الاستعداد لوقف الحرب، مقابل توقف هجوم قوات التحالف. وفي روما، عُقِدَ قبل أيام مؤتمر دولي لدعم تشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا، حضره ممثلون عن كلا الحكومتين المتنازعتين.
أما مؤتمر المعارضة السورية في الرياض فهو الوجه المشرق للمشهد التصالحي الإقليمي، لأنه شهد حضورَ ممثلين عن تياراتٍ لم يكن متوقعاً أن تجتمع تحت سقف واحد، وتمخضت عنه نتيجة قد تؤدي إلى الحصول على جائزة نوبل للسلام، تتمثل في قبول التفاوض مع وفد يمثل النظام. وفي التوقيت نفسه، يقول بشار الأسد في مقابلة، تبدو مبرمجة، مع قناة إسبانية، بأنه مستعد للتفاوض (!) من دون أن يحيد عن الأسلوب نفسه الذي يعرّف فيه الإرهاب.
هذا الهجوم "التصالحي" حضت عليه، ورعته، وربما أوعزت به، جهاتٌ إقليمية، في جنوح نحو حراك دبلوماسي نشيط، سبقته تحركات عسكرية، وفتح جبهات جديدة، وتبادل كثيف للمواقع نتج عنه سقوط طائرة روسية، وتصاعد لهجة حادّة تطايرت فيها التهديدات، ودخلت معدات عسكرية أكثر فتكاً إلى ساحة المعركة، وكأن هذا الفاصل السلمي سياقٌ في معركة مكونة من عدة جولات طويلة، يشكل التعامل الدبلوماسي جزءاً منها، أو يفصل بينها، كالاستراحة بين الشوطين التي يستعيد فيها المتنافسون ما خار من قواهم، ويعيدون تنظيم خطواتهم، استعداداً للجولة التالية، خصوصاً وأن لمؤتمرات "السلام" هذه أرقاماً متسلسلة، وتتناوب المدن الأوروبية على احتضانها.
يأخذ الحلم الروسي، الرابض على إرث سوفياتي، شكلاً امبراطورياً، ويجد مناخاً ملائماً لاستعادة ما فقده التاج القيصري من ألماس. وتتجدد الخطة الإيرانية التي بدأت مع وضع الخميني يده على الثورة الإيرانية، وصُدِّرَتْ هذه الثورة التي اتخذت هيئة ضمٍّ متجددٍ لأراض وشعوب، تحت شعاراتٍ مذهبية، لتحقيق أهداف جيوسياسية، ربما تصطدم بدول إقليمية ودول عظمى أخرى، لديها مصالح متعارضة، وتنشأ عن هذا الصراع عشرات الحروب الصغيرة، المشتعلة هنا وهناك، تبدأ، ربما، لأسباب محلية، لكن استمرارها يعود إلى استثمار خارجي فيها، فتنحرف الثورات والانتفاضات عن مسارها، لتحرق نفسها في خدمة معارك أخرى.
هذا هو الشكل السياسي للتعاطي بين دول الإقليم، حتى في أوقات السلم، وهو ما يُبقي على الحدود الدولية والطائفية القائمة على التفاهمات طويلة أو قصيرة الأمد، بينما يعتمد حسم الصراعات والحروب، إلى درجة كبيرة، على المزاج السياسي والاقتصادي، أما الشكل الطائفي والمذهبي الذي يبدو عليه الحال فهو يخفي تحته طموحاتٍ امبراطورية، فيها من السياسي أكثر بكثير مما فيها من الديني. ونشوء تيارات متطرفة عنيفة، كتنظيم الدولة الإسلامية، هو عوارض جانبية، تظهر بعد حالات الاستعصاء والفوضى التي تعم المنطقة، بعد أن تظللها حالات الركود، ويسود فيها راهن متوتر خاضع للجذب، ومستجيب له.
تبعث اللغة التصالحية في الجو أريجاً تفاؤلياً، لكن الصراع لا يتحرك نحو ذروةٍ نقطية، تفضي إلى الحل، بل ينتشر أفقياً، كغبار القنابل النووية، ما يعني أن مؤتمرات الحوار قد تكون مجرد حقنات موضعية، تخفي الألم ولا تقضي عليه، خصوصاً عندما يخرج عنها بيان ذو لغة عامة غير محددة، يحوي تعاريف تصلح لأشياء متعددة.