محمد جميح
في أزمنة الحروب والكوارث الاجتماعية، يحدث نوع من الحراك الفكري والديني. روح المجتمع تختض، عقله الجمعي يرتج، وجدانه يتماوج مع الكوارث المادية التي تلحق به، المعمار الداخلي تنعكس عليه تصدعات وانهيارات المعمار الخارجي في المجتمع.
وعلى مدى عقود من الزمن كانت عوامل كثيرة تسهم باتجاه توتر لحظات تاريخية في المنطقة العربية، بلغت قمة هذا التوتر في اللحظة التي أشعل محمد البوعزيزي النار في جسده. هذه النار «غير المقدسة» اندلعت ـ ليس في جسد البوعزيزي وحده ـ ولكن في جسد منظومات فكرية وروحية وسياسية واجتماعية، وأتت على أنظمة ودول، وهيجت مردة وشياطين، وأطلقت النزعات القومية والسلالية والطائفية والقبلية بشكل أتى على مفاهيم سياسية وروحية واجتماعية، سادت لفترة طويلة.
لم يحتمل أفراد من المسلمين ـ على سبيل المثال ـ رؤية المسلمين يذبحون بعضهم بعضا في العراق وسوريا واليمن، لم يحتملوا رؤية مناشير الكهرباء تنشر الأعناق البشرية، ولا «المثقاب» يثقب جماجم المعتقلين، ولا الحرق بالنار التي تبادلتها تنظيمات «إسلاموية» محسوبة على التشيع والتسنن. لم يحتملوا كل ذلك، فاهتزت قناعاتهم في أصول الإسلام، وبدلاً من ربط الأحداث الإجرامية بفاعليها من أمثال «أبو علي وأبو درع وأبو حمزة وأبو مصعب»، ربطوها مباشرة بالإسلام، لأن من فعلها قال لهم إنه يمارس فعله «الإجرامي» تنفيذاً لأوامر الله ورسوله، وأئمة أهل البيت.
في اللحظات التي يرتج فيها التاريخ، تلتاث العقول، وترتبك طرق الاستدلال والبحث، وتختلط «أفعال البشر غير المقدسة»، بـ»كلمات الله المقدسة»، لدى بعض من يملكون حساسية زائدة إزاء ما يرون، من دون أن يملكوا نظرة فاحصة إزاء ما يشاهدون، فيصدرون أحكامهم الانفعالية اللحظية بأن النصوص التي يعدونها رافعة هذا العنف محل شك، ويميلون إلى الإلحاد، أو أنهم يبحثون عن «ملاذات روحية» يكونون فيها عرضة للابتزاز العاطفي والروحي، لإحداث تحول ديني أو مذهبي في قناعاتهم الروحية والفكرية.
من هنا خرج بعض الأفراد والمجموعات بين المسلمين يعلنون «إلحادهم»، غير مدركين أن الذي دفعهم إلى ذلك ليس عمليات طويلة من البحث العلمي والتقصي الموضوعي في النصوص الدينية المقدسة، ولا حالات من التأمل الصافي في مسارات الأحداث، وإنما ردة فعل «وقتية وانفعالية» على أفعال بشرية غير مقدسة. هذه الاختلالات غالباً ما تنتجها الظروف الاجتماعية التي يوضع فيها المقدس في موضع المدنس، فتنخدع العيون، ولا تستطيع رؤية خيوط النسيج بشكل دقيق، ومن ثم ترفع القداسة عن النصوص التي كانت مجرد غطاء ديني لأفعال إجرامية قام بها من وظفها في الحروب والنزاعات السياسية المدنسة. وقد شهد تاريخنا ميلاد الكثير من هذه الأفكار التي كانت مجرد ردة فعل «آنية» خرجت من عباءات الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، التي أحدثت ارتجاجات فكرية واختلالات روحية، وتشوهات وجدانية مختلفة.
وفوق ذلك، هناك في هذا السياق اشتغال لجهات أخرى تستغل حالة الاضطرابات السياسية والروحية لأغراض أخرى لا تخلو من منحى سياسي مغلف بغلالة دينية. يتجلى ذلك في أنه مع خروج موجات من اللاجئين من بلاد الشام والعراق هرباً من أحداث السنوات السبع العجاف، رأت الكنيسة الكاثوليكية ـ على سبيل المثال ـ أن تستغل حالة الانكسار الروحي لدى بعض اللاجئين المسلمين في الغرب لاستقطابهم بتوفير المأوى والمعاش لأغراض دينية بأجندات سياسية وخلفية تاريخية مثقلة بتداعيات لها علاقة بموجات الاستعمار الحديث في البلاد العربية. لا شك أن الحراك الإنساني لرأس الكنيسة الكاثوليكية البابا هذه الأيام لا يخلو من أجندات سياسية، زياراته للاجئين، و«غسله» أقدامهم لا يمكن أن ينفصل عن محتواه الديني الذي يريد البابا من خلاله أن يرسل رسالة واضحة للاجئين المسلمين مفادها «في الوقت الذي يقطع فيه رجال الدين المسلمين أعناقكم، ها أنذا أغسل أقدامكم، والخيار لكم».
وهنا يوضع «اللاجئ» الذي هرب من «قطع الأعناق» في بلاد المسلمين، أمام امتحان روحي عنيف مارسه عليه بشكل ماهر رجل دين مسيس يعرف كيف يتصرف، ويفهم ماذا يريد، ويسعى لبسط سلطة روحية قاهرة على شخصية منهكة، وتكاد تكون منهارة، ولا تملك أدوات التمييز بين الحالات المختلفة، وليست لديها الخلفية التاريخية التي كانت فيها الكنيسة الكاثوليكية بإرسالياتها ذات يوم طليعة الموجات الكولونيالية الرهيبة التي لا شك أن الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي العربي اليوم مرتبط بها بشكل أو بآخر.
هناك ـ إذن ـ نوع من الاستغلال الروحي أشبه ما يكون بعمليات ممنهجة تمارسها جهات دينية بخلفيات سياسية، مستغلة حالة الانهيارات المتلاحقة في النسيج الاجتماعي العربي الإسلامي. ولا يقتصر ذلك على الكنيسة والبابا ودورهما في هذا الشأن، ولكن ذلك يتعداه إلى داخل المسلمين أنفسهم. فالطريقة التي يوظف بها النظام الديني الحاكم في إيران مأساة العرب المعاصرة لصالحه تتضح بشكل انتهازي تغطيه مسحات دينية، لا تستطيع أن تغطي حقيقة الأجندات السياسية والقومية للإيرانيين في هذا الخصوص.
وفي هذا السياق يجب أن نعرف أن الحال الكارثية السورية المعاصرة سبقتها موجات من «الإرساليات الشيعية» التي غزت الريف السوري، وعملت لسنوات طويلة على شق النسيج الاجتماعي العربي، ومهدت مع عوامل أخرى لحالة احتراب الأشقاء في سوريا في فترة سنوات الحرب الرهيبة التي تكاد تقضي على مفهوم سوريا كدولة وتاريخ وجغرافيا.
وبعد نجاح التجربة الإيرانية في سوريا واليمن بإدخال السوريين واليمنيين في حرب أهلية متواصلة، تحاول إيران استنساخ تجربتها السورية واليمنية في بلـــدان شـــمال أفريقيا بعد أن حاولت مرات عديدة في مصر من دون جدوى.
واليوم تشبه تحركات أمير موسوي المغلفة بالغلاف «الثقافي الإسلامي» في الجزائر تحركات السفير الإيراني في صنعاء قبل حوالي عقدين في ريف اليمن الشمالي، التي أثمرت ميلاد الحركة الحوثية التي دمرت اللحمة الاجتماعية في اليمن. ولا شك أن التحركات التي يقوم بها موسوي ـ على سبيل المثال ـ هي النسخة «الإسلامية» ـ إن جاز التعبير ـ لتحركات بابا الفاتيكان التي يحاول أن يغلفها بمسحة إنسانية لا تكاد تخفي الأهداف الدينية ـ السياسية من ورائها، أو بتعبير آخر فإن الإرساليات الإيرانية تقوم بعملية «كثلكة» تبشيرية تشبه حد التطابق في الأدوات والأهداف زيارات البابا إلى معسكرات اللاجئين المسلمين في بعض الدول الأوروبية.
وإذا شكلت عمليات التبشير في الماضي طلائع الاستعمار الأوروبي في البلاد العربية، فإن عمليات «التشييع» اليوم تمثل طلائع «الغزو الإيراني» الناعم للبلاد العربية في ظل تداعي جهاز المناعة العربي في جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية في اللحظة الراهنة.
ولعل تحسن علاقات إيران بالفاتيكان مؤخراً يصب في مجرى الأهداف المشتركة التي عبر عنها روحاني في رسالته للبابا التي قال فيها «نحن وأنتم في جبهة واحدة ضد الإرهاب»، والذي يأخذ من وجهة نظر الإيرانيين طابعاً «عربياً سنياً».
بقي أن نشير إلى أن حرية الدين يجب أن تكون مكفولة، وأن هذا الكلام لا يعني بحال مناقضة «حرية المعتقد» التي كفلها الإسلام ذاته، ولكن الهدف من هذه المقالة، كان كشف الأبعاد الدينية للتحركات الإنسانية، ومن ثم الأبعاد السياسية للأنشطة الدينية التي تحاول بها جهات دولية وإقليمية ضرب الأمن القومي العربي من داخله، بإحداث مزيد من التشرذم الديني والطائفي، لا لغرض «التنوع الديني» الثري، ولكن لإحداث شروخ من شأنها إضعاف العرب في تلك اللحظات العصيبة من تاريخهم، لصالح مشاريع إقليمية ودولية لها أبعادها التوسعية الاستعمارية المغلفة بطابع ديني وإنساني.