تسارعت الأحداث في اليمن بشكل مثير، وتفاجئ الكثير بسيناريوهات لم يكونوا يتوقعوها، أنتجها فراغ كبير، حول الفكرة والقناعات الخاصة لأقلية الى سلطة وسيف مسلط على رقاب الآخرين المختلفين مع الفكرة، فسلالية وطائفية وعنصرية الحركة الحوثية ملازمة لها منذ نشأتها الأولى، ومرتبطة ارتباط وثيق بعقيدة البطنين، وقد ظهر هذا جلياً في الوثيقة الفكرية التي وقعها قائد الحركة مع عدد من رموز التنظير لولاية السلالة، لكن حلم الحكم المطلق لم يكن وارداً في مخيلة قادتها الى ما قبل 2013م؛ وكان أقصى ما يتمنوه هو أن يكنوا شركاء في السلطة وأن تحترم عقائدهم الخاصة، لذلك أفرطوا أثناء مؤتمر الحوار 2013م في تثبيت فقرات الشراكة في الحكم والمؤكدة على الحقوق والحريات بكل أشكالها وبالأخص الحريات المذهبية، وأكثروا من النصوص التي تؤكد على حيادية مؤسسات الدولة وإعلامها ومؤسساتها التعليمية، بل قدموا رؤية علمانية بحتة نصت على أن الاسلام ليس دين الدولة في اليمن بل دين الشعب، لخوفهم من تفسير جملة "الاسلام دين الدولة" حسب رغبة الأكثرية المختلفة معهم مذهبياً، لذلك أصروا على علمانية الدولة ومؤسساتها على اعتبارها الأقدر على حمايتهم كأقلية.
تلك الفقرات الحقوقية والرؤية التي تبنوها في مؤتمر الحوار الوطني تدل على أن سلالية الحركة كانت لا تزال عقيدة فكرية حبيسة عقولهم ويروجون لها في مجتمعهم المحلي الطيع تجاهها بوعيه المذهبي التاريخي، وكانت ولاية البطنين تُطرح كمشروع اجتماعي توعوي ديني عندما يتحدثون بها أمام المختلف معهم مذهبياً، باعتبارها قناعة فكرية لا طموح سياسيي من ورائها، وكان يُنظِر بعض قادة الحركة -عبدالملك العجري وآخرون- أن ولاية البطنين تقتصر على الولاية الدينية دون السياسية، بحكم التعدد المذهبي والحساسيات المختلفة في اليمن، والهدف منها ربط مجتمعهم المحلي بالقيم والأخلاق القرآنية من وجهة نظر "قرناء القرآن" وهم قادة الحركة.
تطور مشروع الحركة مع تطور وضعها الميداني على الأرض، وتحولت الفكرة الى سلطة تبطش وبقوة بكل من اختلف معها، وتحولت الرؤية والمواد الحقوقية التي تقدموا بها في مؤتمر الحوار الى عائق أمام سلطتهم، وأصبحت تُشكل مادة مهمة لمحاكمتهم أخلاقياً اليها، كونهم من تقدموا بها ونظروا لها وأصروا على ادراجها ضمن مُخرجات مؤتمر الحوار الوطني اليمني، ومن ثم كانوا هم أنفسهم أول من انقلب عليها تماماً؛ تلك المحاكمة أظهرت كم يناقضون أنفسهم عندما يتم مقارنة ما قدموه في مؤتمر الحوار عندما كانوا معارضة بما فعلوه عندما أصبحوا سلطة، والفارق بين ما قدموه وما فعلوه لا يتجاوز العام.
كما يجدر الإشارة الى أن الحركة لم تكن ضحية فكرها العنصري فقط، بل ضحية خصومها كذلك، أتحدث عن سلطة المبادرة الخليجية، الذين رفضوا قبول الحركة، واستمروا في اقصائها حتى بعد مؤتمر الحوار، وأصروا على التعامل معها كخصم وعدوا لا يمكن اشراكه في السلطة ومنحه شرعية الوجود السياسي والحرية في اظهار اختلافاته المذهبية وفقاً لما تم الاتفاق عليه في الحوار الوطني، الذي نص على الشراكة مع الحركة المتزامنة مع نزع السلاح والانسحاب من المناطق، ولم يشترط نزع السلاح والانسحاب قبل الشراكة كما يُروج له البعض، الاستمرار في الاقصاء دفع الأوضاع الى صدام حتمي انتصرت فيه الحركة وبالضربة القاضية بدخولها صنعاء في 21 سبتمبر 2014م، وبوتيرة متسارعة توسعت سيطرتها على الكثير من المحافظات الأخرى التي كانت لا تتصور حتى في احلامها أن تسيطر عليها، وأقصى ما كنت تتمناه هو أن تكون لها تحالفات سياسية فيها مع الناقمين على خصومها.
أصيبت الحركة بالغرور، وخيل لقائدها أن هذا تمكين من الله، واطلق عليه بعض الاعلام الممول من ايران "سيد الجزيرة العربية"، فجمح شيطانه كثيراً ضارباً عرض الحائط بكل المعادلات الإقليمية والدولية التي تحكم اليمن منذ عقود، إضافة الى الحساسيات المحلية الكثيرة تجاه حركته، مناطقية ومذهبية وسلالية، اضافة الى ما قدموه وتعهدوا به في مؤتمر الحوار؛ معتقداً ان هناك ضوء أخضر من السماء، وعليه فقط أن ينطلق مسرعاً حتى لا تعاقبه السماء على التفريط، دون أن يدرك أن هناك رفض مجتمعي واسع لحركته وأفكارها السلالية والعنصرية؛ اضافة الى أن الكثير من القاطرات الكبيرة، تحمل لوحات اقليمية ودولية، تعودت على المرور من هذا الطريق لعقود، وأصبح لديها علاقات قوية وروابط كبيرة مع غالبية المجتمع المحلي المختلف معه مذهبياً ما يمكنها من قطع الطريق على الجميع اذا لم تتمكن من استعادة السيطرة عليه.
تلك باختصار قصة الحركة الحوثية ورحلتها من "سلالية الفكرة" الى "سلالية السلطة" التي أنتجت أقلية طائفية سلالية تملك مشروع وقيادة موحدة تسيطر على الحكم في مركز الدولة في اليمن، فيما الأكثرية الساحقة مشتتة وعاجزة عن صناعة حاملها السياسي الوطني الجامع، وهكذا أوضاع تعتبر وصفة لحرب أهلية طويلة المدى لا يمكن أن تنتهي الا بأحد الخيارات التالية:
- تبلور مشروع وطني جامع للأكثرية وقيادة موحدة تقلب الأوضاع الميدانية بما يمكنها من الحكم مع حفظ حقوق الأقلية في الشراكة والحرية، ولا يزال هذا الاحتمال بعيد المنال على المستوى المنظور على الأقل.
- تحول الحركة السلالية الى حركة وطنية تتجاوز معها كل الأبعاد الطائفية، وهذا شبه مستحيل بالنظر الى عقلية الحركة وحركتها على مستوى الواقع؛ وما تصدره من قرارات وتعيينات وترقيات تُجسد السلالية في أبهى صورها وأكثرها فجاجة، إضافة الى ما يظهر في إعلامها والإعلام الرسمي الذي تسيطر عليه، والذي يثبت أن هناك استحالة في تحولها حركة سياسية لا طائفية، أو على الأقل تعاطيها مع السلطة بوعي سياسي ووفقاً للنظام والقانون لا وفقاً للقناعاتها الفكرية المناقضة للديمقراطية، فليس مطلوب من الحوثيين أن يُغيروا أفكارهم السلالية الطائفية العنصرية، طالما بقت حبيسة عقولهم وقلوبهم، المطلوب فقط أن لا يحكمونا عبرها، وأن لا يستخدموا الدولة وامكاناتها لترويجها. ومن هنا ستراوح الأوضاع مكانها حتى اشعار آخر.