بدأت معركة تحرير تعز من حي صغير في المدينة. في تلك الأثناء حشد صالح والحوثي قوات مكافحة الإرهاب، الحرس الجمهوري، اللواء 35 بكل تفريعاته، الأمن المركزي، القوات الخاصة، معسكر العروس، ميليشيات المؤتمر الشعبي العام، الميليشيات الحوثية في تعز، الميليشيات الحوثية القادمة من الشمال، مسلحي ومرتزقة القبائل، شبكات اتصالات وإمداد، شبكات لوجستية، كتائب حوثية متخصصة: كتائب الحسين، على سبيل المثال .. إلخ.
في تلك الأيام سألت رشاد الشرعبي، وكان ناطقاً باسم المقاومة:
كيف الوضع يا رشاد، طمني.
قال رشاد إن عدد المقاومين لا يتجاوز 500 شاب!
كانت معركة غير متكافئة.
ثم بدأت تعز طريقها الطويل نحو الحرية. دعوني أقتبس عنواناً لمانديلا: الطريق الطويل نحو الحرية.
شارع فشارع، حارة فحارة، مبنى فمبنى.
كانوا في شارع جمال، وفي مبنى التربية، ثم خرجوا. كانوا في مدرستي، مدرسة 26 سبتمبر، وخرجوا. كانوا في كل شبر مربع، ثم خرجوا من كل التراب، وسيخرجون من الذاكرة. لن نتذكر ملامحهم، سنقولهم إنهم أعداء لا يعرفهم أحدا قتلونا وانهزموا، وسنبني الأسوار لأجل بكرة، لأجل ما بعد بكرة.
حررت المدينة بالذراع، وبالمتر، وخرجوا:
من صينة، من المرور، من القلعة، من الدائري، من الدحي، من البريد، من حوض الأشراف، من فندق الإخوة..
تتذكرون معارك "دبابة البريد وفندق الإخوة"؟ أسابيع طويلة.
كانت المقاومة تتزايد، تكبر، تتعملق، وكانت القبائل ترفد جيوش صالح والحوثي. في منتصف المعركة نقل صالح معسكراته البعيدة من صنعاء ومن الحديدة، اللواء العاشر جاء إلى المعركة في أوجها من أبعد مكان في تهامة، قاطعاً مئات الكيلومترات.
عشرات آلاف القذائف على مدينة صغيرة، لكنها قاومت.
اقترب عدد الجرحى من عشرين ألف.
في منتصف المعركة أغلق الإخوة الجنوبيون طريق عدن، ومنعوا الجرحى من دخول الجنوب، ومنع الحوثيون جرحى تعز من مغادرتها. لم تنشغل تعز بخوض معركة مجانية ولا عبثية، أبدت تفهماً لما يفعله الجنوبيون في لحظات حرجة من التاريخ، تاريخ اليمن بشماله وجنوبه.
معارك مشتعلة، كانت الحرية إلى جانب تعز، وكان الشيطان، كل الشيطان، على الضفة الأخرى. لقد وقفت تعز في الجانب الصحيح من التاريخ، والتاريخ يحمل على كتفيه من يجيد التخاطب معه، والتخاطر مع حتمياته..
اشتعلت صبر. معارك صبر، مشرعة وحدنان، الضباب، حدائق الصالح، السجن المركزي، معارك الجامعة، حبيل سلمان، معارك عصيفرة، معارك كلابة، معارك المستشفى الجمهوري، حارة الجمهوري، معارك العسكري، معارك الكمب، معارك الأمن المركزي، معارك القصر الجمهوري، معارك كلية الطب. معارك المسراخ، الصراري، نجد قسيم، جبل حبشي، الشمايتين، جبل جرة، حوض الأشراف، السجن المركزي، المقهاية، حي الزنوج، حي قريش، البعرارة.
إلخ إلخ إلخ ..
تحررت تعز في ألف معركة، وفي كل معركة كانت تقتل فيها الملك الأحمق والمخلوع معاً،
ثم تقتلهما في المعركة التالية.
لقد أوسعوها جراحاً وأوسعتهم قتلاً.
انهزموا جميعاً وبقيت البعرارة، بشموخها الدافئ وغموضها النبوي الحميم، بلكنتها الرقيقة، وظمئها الأبدي.
كانت مقاومة تعز تحرر المدينة بدبابة واحدة. إنها الدبابة الأعظم في التاريخ، تلك التي هزمت مئات الدبابات، الدبابة فرت من الجيش ثم عادت لتهزمه كله، وتدوس على شرفه الزائف!
بدبابة واحدة ووحيدة هرب بها جندي بطل من معسكر اللواء 35 والتحق بالمقاومة، ذلك الجندي الوحيد هو الذي حفظ شرف الجندية، وشرف الجيش، ويبدو أنه سقط شهيداً فيما بعد..
متراً متراً، وذراعاً ذراعاً.
في الطريق إلى صنعاء التقت التوابيت الصاعدة والحشود النازلة، لم يوفروا شيئاً ضد المدينة، مدينة الله.
صعد المقاومون جبال تعز، كل جبالها، وحرروها. لقد فعلوا ما لم يفعله المسيح في الجليل، وعندما دخلوا مدينتهم في الساعة الأخيرة تفوقوا على منظر دخول اليسوع إلى أورشليم..
نزل أبو علي الحاكم شخصياً وأدار المعركة، أما صالح فجعل معركة تعز آخر معاركه وأخطرها. إلا تعز، فهو يعرف معنى أن تصير حرة. تعز مدينة كل اليمنيين، ولن تترك اليمنيين رهائن للخاطفين، ستذهب إليهم في كل مكان، وتلك هي الحقيقة التي يدركها صالح.
التحق الآلاف بالمقاومة، نزف جبل حبشي مئات الشهداء، وكذلك جبل صبر. انتصر صبر، وطرد الجيوش والعصابات واستعاد أعلى قمة في تعز. قاومت الوازعية، هزمت مرة وانتصرت عشرات المرات، صمد كل جزء في المدينة، وكل أسرة، وكل جريح. لم يمض سوى وقت قصير حتى كانت المقاومة شأناً أسرياً، تعنى به كل أسرة..
أين ذهبت الجيوش، الحرس الجمهوري، الألوية، الكتائب، القبائل، الحوثيون، المتحوثون؟
كل أولئك انهزموا بالحركة البطيئة، انهمزموا على مدى ما يقرب من عشرين شهراً، انهزموا بالتقطير. الآن، انظروا، بقيت تجمعات مختبئة على سلسلة من التباب والمرتفعات عند مداخل مدينة تعز.
خاضت تعز معركة إلهية على كل شبر، ودفعت ثمناً باهضاً، باهضاً، باهضاً..
العمال الذين فقدوا مصادر دخلهم
الطلبة الذين خسروا عاملين دراسيين
التلاميذ الذين دمرت مدارسهم
المنازل المهدمة
البنية التحتية المحطمة
آلاف الجرحى والشهداء
المقابر التي حفرت في كل القرى
وبقيت القيم الكبيرة المطلقة حية، وخصبة، وصافية:
اليمن، الجمهورية، الحرية، التنوع، العدالة الاجتماعية، الإبداع، والحق في القول كما الحق في العيش..
لكي تصل تعز إلى هذا اليوم فقد خاضت ألف معركة
يا له من نصر!
ألف حمداً على سلامتك يا مدينة تعز،
يا جمهورية الطيبين والأحرار
يا مأوى الأفئدة،
ويا صديقة كل اليمنيين!