نصر طه مصطفى
جريدة الحياة
لم تصمد هدنة وزير خارجية الولايات المتحدة المنتهية ولايته جون كيري في اليمن كما كان متوقعاً، مثلما لم ولن تصمد خريطته الركيكة البنيان لحل الأزمة اليمنية ووقف الحرب، بسبب غموضها وقصورها وانحيازها الواضح للحوثيين، والتي تحمل عوامل نقضها في بنودها، وهو ما يجعلها ليست فقط مؤهلة لإنتاج حل عادل في اليمن، بل على العكس فإنها ستؤسس لصراعات داخلية لا تنتهي وستمتد لسنوات طويلة. وعلى الصعيد الإقليمي فهي تؤسس لنفوذ إيراني فاعل ومؤثر وطويل المدى في اليمن يشكل أخطاراً لا تنتهي على دول مجلس التعاون الخليجي وتحديداً على المملكة العربية السعودية. وهو أمر يعني ببساطة استمرار الصراع الداخلي واستمرار تهديد واستنزاف الرياض التي يصعب عليها قبول مثل هذا النفوذ جنوبها وفي دولة بأهمية اليمن الكبير مساحة وسكاناً وتنوعاً، والذي يعتبر عمقها الإستراتيجي وحديقتها الخلفية، وحيث لا يوجد مبرر واحد منطقي لا من الناحية الجيوسياسية ولا من الناحية العقائدية والمذهبية لتمكين طهران من بسط أي نفوذ في بلد لم يدخله المذهب الإثنا عشري ولم يتغلغل فيه أو يشهد انتشاراً واسعاً في أوساط مواطنيه حتى هذه اللحظة.
من يمعن التأمل في خريطة طريق كيري اليمنية يدرك ببساطة نقاط ضعفها وهشاشتها سواء في بنودها السياسية أو بنودها الأمنية والعسكرية، ويدرك بسهولة أن غرضها الأساسي ليس وضع أسس حقيقية ومتينة لحل شامل سياسياً وعسكرياً وأمنياً، بل تهدف فقط الى نزع سقف الشرعية عن البلد بأكمله باستبعاد الرئيس عبدربه منصور هادي ونائبه الفريق علي محسن صالح وبالتالي وضع كل الأطراف المعنية على قاعدة الانفلات والفوضى واللادولة ليعملوا - في ظل خلافاتهم العميقة - على بناء سقف مشروعية جديد لا يستند الى أساس واضح ومحدد، وهو أمر يدرك كل من يعرف اليمن معرفة جيدة أنه لا يمكن أن ينجح وأن البلاد ستدخل بسببه في حالة التشظي والتجزئة وعصر الدويلات.
لقد كان الاتفاق الذي تبناه المبعوث الخاص للأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ في نهاية تموز (يوليو) الماضي خلال الأسبوع الأخير من مشاورات الكويت ووافقت عليه الحكومة اليمنية حينها، ورفضه الانقلابيون أكثر وضوحاً في جوانبه الأمنية والعسكرية من خريطة كيري، كما أنه أسس لحوار سياسي حول إنشاء حكومة وحدة وطنية وضمن مصالح الانقلابيين وحافظ على حقهم في الشراكة المستقبلية وعزز موقف الشرعية التي قبلته على رغم كل ملاحظاتها عليه باعتباره يؤسس لسلام حقيقي.
تمضي إدارة الرئيس أوباما - المنتهية ولايته - في شكل حثيث ومخلص وهي في آخر أيامها لترسيخ قدم إيران في اليمن. وجاءت مفاجأة فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية لتدفع جهود الإدارة المرتحلة عبر وزير خارجيتها الذي قام باختراق غير مسبوق في هذا الصدد من خلال لقائه ممثلي الحوثيين في العاصمة العمانية مسقط ومن دون أن يلتقي بممثلي حليفهم الرئيسي علي عبدالله صالح في رسالة واضحة لا أظنها تحمل أي لَبْس أو غموض. وكان بعض ما تسرب عن اللقاء يؤكد ذلك ومن ضمنه تأكيده لهم أنهم لن يحصلوا حتى على عشر هذا الاتفاق في عهد ترامب، وكذلك أن قبولهم بالخريطة كما هي سيعزز حضور إيران بقوة في المشهد السياسي مستقبلاً من خلالهم وغير ذلك من الرسائل الواضحة. ولا شك في أن هذا هو الهدف الكبير الذي تريد إدارة أوباما أن تنجزه قبل رحيلها. وكانت لهفة كيري واضحة إلى درجة أنه تحدث عن تشكيل حكومة وطنية في صنعاء قبل نهاية هذا العام في تعارض واضح مع بنود خريطته أساساً.
إن لقاء كيري بالحوثيين كحركة مسلحة متمردة انقلبت على سلطة توافقية منتخبة هو بالتأكيد من السوابق النادرة في عمل الديبلوماسية الأميركية، في الوقت الذي لم يكلف نفسه حتى بعقد لقاء - ولو من باب المجاملة والتوازن - مع الرئيس هادي أو ممثل عن حكومته، وهو ما عزز انحياز خريطته في مجملها باتجاه الانقلاب بغرض الحفاظ على نفوذ إيران في اليمن وليس قناعة بالحوثيين، رامياً عرض الحائط بكل المرجعيات الخاصة بالقضية اليمنية، وما يعزز ذلك تأكيده لهم رفض إدارته لأي دور مستقبلي للرئيس السابق علي عبدالله صالح وعائلته مستقبلاً في اليمن.
يدرك جون كيري ورئيسه الضعيف أن الرئيس المنتخب ترامب لا يكن أي ود لإيران حتى وإن كان أيضاً لا يكن وداً كبيراً لدول الخليج أيضاً. لكن كيري يدرك كذلك أن ترامب لن يرحب بتمدد النفوذ الإيراني إلى جنوب الجزيرة العربية، وأن أقصى ما سيقبله هو التعاون مع إيران في العراق وسورية في الحرب ضد «داعش» وليس أكثر من ذلك. ولذا فهو يعتقد بأن الفترة المتبقية من عهد أوباما هي الفرصة الأفضل لفرض حل في اليمن يحفظ مصالح إيران ويثبت أقدامها في ظل الانحسار المستمر للقوة العسكرية الميدانية للحوثيين وتراجع سيطرتهم على الأرض في شكل مضطرد لمصلحة الجيش الوطني والمقاومة الشعبية. لذلك سارع الى إعطاء الحوثيين ما يريدونه وهو إبعاد الرئيس هادي ونائبه وأخذ منهم بالمقابل التزاماً مهيناً بخريطته التي سبق لهم أن أبدوا اعتراضات كبيرة عليها، لكن كيري بالمقابل تعامل بخفة غريبة لا تليق بموقعه الرفيع مع الحكومة اليمنية الشرعية - نتيجة لهفته وتسرعه - من دون أن يدرك أنها تسيطر على ٨٠ في المئة من الأرض اليمنية وأنها حالياً في أفضل حالات تماسكها وأنها مدعومة بإرادة شعبية حقيقية لإنهاء الانقلاب واستعادة الدولة المسلوبة. وفي حال كهذه لا تنجح محاولات فرض الحلول القسرية المفخخة مهما كانت.