كبرياء باكازم

2016/12/11 الساعة 03:26 مساءً
وصف الله - جلا وعلا - الموت بالمصيبة ، لعظيم الوقع ، وجلال الخطب ، وهول الفاجعة ، فكلمة الموت ترسم بوضوح المعالم الفاصلة بين عالم الحياة والعالم الأخر ، في لحظة يودع فيها الحبيب حبيبه ، مرددا وداعا ﻻ لقاء بعده ، كلمات تجتاز حدود المكان ، وحواجز اللغة، فتولد شعورا إنسانيا مشتركا اسمه ( الحزن ) . فمن المعيب أن نرى كثيرا من الناس ﻻيرون للموت مهابة ، وﻻ للحزن جلالة ، فيستغل مأساة ذوي الضحايا أبشع أستغلال ، ويوظف الأشلاء المتناثرة لمأرب سياسية رخيصة، دون مرعاة لأب فقد وحيده ، أو أم فقدت فلذت كبدها ، وترى البعض الأخر يسارع لإتهام فلان من الناس و يبرئ أخر ، موظفا في ذلك كل الحسابات الرخيصة ، والقرائن الدنيئة لكي يدين فلان أو الجهة الفلانية ، وفي المقابل تصاب الألسن البليغة بالفهاهة ، والعقول الحكيمة بالعقم ، عن إيجاد حلا للمأساة ، ووقف نزيف الدم ، ودوي المتفجرات التي تحصد الأروح البريئة ، التي خرجت زرافاتا ووحدانا ، ملبية نداء وطن ﻻيسمعهم . ففصول المأسي لاتزال تتوالى علينا تترى ، لم نكمل قصة الشاب الذي استدانت أمة من جارتها 2000 رياﻻ لتوفر لوحيدها أجرة المواصلات على أن يعيدها فور إستلامه لأول راتب ، فأحترق جسده في مدرسة السنافر ؛ واحترق معه مابقي من نقود في جيبه وﻻيزال المبلغ لليوم ينتظر السداد ، فإذا بي أسمع قصة حزينة أخرى من طبيب ثقة يقول : أخبره صديقه المناوب أنه سمع رجل من قبيلة باكازم يتصل بأهله و يقول في رباطة جأش وعزيمة : ( احفروا قبور عيالي ماتوا كلهم ) . يا الله ياالله ، عادت بي هذه الكلمات إلى مضارب هذه القبيلة البدوية العريقة ، وأخذت اتذكر قراها قرية قرية، وابطالها وأعلامها فردا فردا ، فلي أصدقاء كثر من أبناء هذه القبيلة ، وحضرت الكثير من مناسبات الأفراح والأحزان في مضارب قبيلة باكازم الدهماء ، فتأملت كلمات الأب الرابط الجأش المتماسك ، فخرجت بشيئ واحد ، أنها باكازم كالشجر تموت واقفة ، قبيلة أعطت كل شيئ ولم تأخذ شيئا ، قدمت في كل المراحل خيرة أبنائها ولم تجازيهم الأنظمة المتعاقبة بشيئ ، مديريات باكازم - المحفد وأحور - ﻻتوجد فيها خدمات أساسية ﻻ كهرباء ، وﻻماء ، وﻻمدارس ، وﻻصحة ، ومع ذلك لم تولول باكازم يوما ، ولم تشكو الاقصاء والتهميش ، ولم تطالب بمناصب أو مكاسب ثمنا لماقدمه الأباء والأبناء كبعض المديريات التي أخذت كل شيئ وتردد ليل نهار نحن مهمشون ، نحن مقصيون ، نحن قاتلنا ، ونحن ناضلنا . لم تصل مليشيات الحوثي لمضارب قبيلة باكازم ، فذهبوا لملاقاته بأسلحتهم الشخصية وسمع القاصي والداني قراع سيوفهم في جبهة العريش، وجعولة ، والكراع ، وبير أحمد ، و لودر ، وعكد ، والمنياسة ، سألت دمائهم في الحواضر والبوادي على امتداد رقعة اليمن الكبير وﻻزالت تعطي في صمت ، فلله درك من قبيلة !!! احترت في أمرك أقبيلة أنت أم أمة؟؟؟ . اخجلت باكازم بكبريائها هواة المجد ، والباحثين عن الشهرة ، ولجمت بصمتها أبواق الضلال ، وتحطمت على أشلاء أبنائها كل كبرياء مصطنعة ، لتعلم الصغير درسا في الكبرياء والعظمة ، وتقول : للكبير للمجد سنن ، وللعظمة ثمن ، فالتاريخ ليس مركبا ذلوﻻ فصهوته ﻻيمتطيها إﻻ الفرسان . ذهب الصغار يتبادلون التهم ، وذهبت باكازم وحدها تشق تراب الأرض تواري أشلاء أبنائها ، شقت طريقها الذي ﻻيعرفه الكثيرون ؛ أنه طريق الصمت ، فباكازم ﻻتعرف النواح والعويل ؛ فالصراخ والعويل في عقيدة باكازم من صفات النساء وليس من شيم الرجال . تأملت معنى جملة الكازمي، وتفحصت مفرداتها مفردة مفردة ( احفروا قبورا ﻻوﻻدي فقد ماتوا جميعا ) فتذكرت مقولة الشهيد القائد شلال في حرب الوديعة عندما أتته أوامر الأنسحاب فرد بعبارته المشهورة ( بايضحكين علي نسوان باكازم بايقولين شلال ترك محجاه ) وﻻيزال لليوم الجبل الذي استشهد فيه يحمل اسم شلال ، أنها بكازم تنحتح أسماء أبنائها على جبين الصخر ، وتجبر الزمان والمكان على التعاطي مع بطوﻻتها ومآثرها ، وزدت يقينا أن العظمة هبة من الله حين تذكرت قصة أخرى رواها ضابط لي قال : ( كنا في المعسكر ندرب مستجدين ، فامرتهم انبطاح فانبطحوا جميعا إﻻ شاب ﻻيتجاوز عمره 13سنة ظل واقفا ، قال : فنهرته انبطح ، ظننت أنه لم يسمع الأمر الأول ؛ فأجابني بلهجته الكازمية فقال : ( يابوك احنا مالتبطحشئ نحنا نتراشخ بهن واحنا قيام ) فأيقنت أن للبطولة منابت ، ولشرف موارد ، و أن العظمة فطرة و ليست شيئا مكتسبا يشتريه المرؤ بالمال ، أو معجزة تنفخ فيها روح الحياة منابر الإعلام . سعيد النخعي عدن 11/ ديسمبر / 2016م